عام على حرب أوكرانيا… ما الذي تغير في الشرق الأوسط؟
مآلات - أبريل 2023
تحميل الإصدار
خريطة أفكار عام على حرب أوكرانيا والشرق الأوسط

خلاصة

أدت الحرب الروسية الأوكرانية، مع تصاعد التنافس الأمريكي الصيني، إلى إبطاء وربما توقف التراجع الأمريكي عن التزاماتها في منطقة الشرق الأوسط، حيث باتت من بين أولويات واشنطن ضمان عدم تمدد النفوذين الروسي والصيني في منطقة الشرق الأوسط، وضمان ولاء حلفائها، مما دفع إدارة “بايدن” لإظهار جدية أكبر إزاء الالتزام الأمريكي تجاه أمن دول الخليج.
ساهمت التغيرات الهيكلية التي تشهدها أسواق الطاقة العالمية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، في تحفيز الصين لتوسيع علاقاتها مع دول الخليج الغنية بموارد الطاقة، وهو أمر يأتي ضمن سياق عام من مؤشرات على تنامي نفوذ الصين في المنطقة، وتجلى هذا مؤخرا من خلال وساطتها في اتفاق تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية.
تميل دول الخليج لإحداث توازن في موقفها من الحرب، حيث امتنعت عن الانضمام للعقوبات الغربية، وحرصت على استمرار علاقاتها مع موسكو، لكنّها أيضا استجابت لمطالب الغرب بدعم أوكرانيا، وذلك عبر إرسال مساعدات إنسانية سخية، وأخرى عسكرية “سرية”. 
أعادت حرب أوكرانيا موقع المملكة العربية السعودية المحوري في سوق الطاقة العالمي، واستعادت الرياض الكثير من زخمها الجيوسياسي على الساحة الدولية، ويشير النهج السعودي في تقرير سياسات (أوبك+) إلى مقدار الثقة التي يدير بها ولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان، علاقته مع واشنطن. 
نجحت سياسة تركيا “المتوازنة” تجاه الحرب في أوكرانيا في تحقيق معادلة صعبة، تمثلت في التوكيد على حيوية موقع أنقرة الجيوسياسي المهم للغرب؛ والاحتفاظ بعلاقات عمل وصداقة مفيدة مع روسيا في نفس الوقت. وهو توازن يتناغم مع سعي أنقرة لإرساء سياسة خارجية أكثر استقلالا عن الغرب، لكنّها ليست معادية له، ولا تستهدف التخلي عن تحالفها الاستراتيجي العسكري معه.
دفعت حرب أوكرانيا إيران وروسيا نحو تعزيز علاقاتهما، في إطار رغبة الطرفين في إضعاف نظام الهيمنة الأمريكي. ومع هذا؛ فإن العلاقات الروسية الإيرانية مازالت تتخذ طابعا تكتيكيا، يرتبط بالمصالح الذاتية لكل طرف، وطبيعة علاقاتهما الآنية بالغرب؛ لكن ليس من المستبعد أن تتطور العلاقات إلى مستويات استراتيجية في ظل تصاعد التحديات المشتركة.
ساهمت تداعيات حرب أوكرانيا في تسريع وتيرة تدهور وضع الاقتصاد المصري الذي كان يعاني بالفعل. وسيساهم اعتماد مصر الواسع على الشركاء الخليجيين في مزيد من تآكل نفوذ القاهرة الإقليمي. بينما تتزايد المخاوف على الاستقرار الاجتماعي في ظل الضغوط الاقتصادية المستمرة.
تحاول “إسرائيل” الحفاظ على التفاهمات الأمنية العميقة مع موسكو حول سوريا. لكنّ تنامي التعاون العسكري الروسي الإيراني وتواصل الضغوط الأمريكية على تل أبيب لتطوير الدعم لكييف قد يؤديان قريبا لاختلال مساعي “إسرائيل” للإبقاء على التوازن بين الجانبين.

عام من حرب أوكرانيا... الشرق الأوسط يسعى لتوازن دقيق بين الغرب وروسيا

عام من حرب أوكرانيا… الشرق الأوسط يسعى لتوازن دقيق بين الغرب وروسيا

ترك العام الأول للغزو الروسي لأوكرانيا تداعيات بارزة على السياسة الدولية، بالإضافة إلى انعكاسات في منطقة الشرق الأوسط، حيث كشفت الحرب عن تعقيدات الحسابات التي تواجه قوى الإقليم نتيجة تصاعد الصراع الدولي بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. كما كان للحرب أيضاً ارتداداتها على الوزن الجيوسياسي للقوى الإقليمية، وعلى ديناميكية العلاقات بين دول المنطقة والقوى الدولية. 

  • جاءت استجابة القوى الإقليمية للحرب الروسية الأوكرانية غير متماهية تماما مع الموقف الأمريكي والغربي، حيث تجنبت اتخاذ موقف حازم ضد روسيا لتجنب تهديد مصالحها المباشرة المشتركة مع موسكو، وبدلاً من ذلك سعت إلى تحقيق توازن في علاقاتها بين الجانبين، يقوم على إدانة الغزو والتمسك بسيادة أوكرانيا، وفي نفس الوقت تجنب فرض عقوبات على روسيا أو تقديم مساعدات عسكرية “معلنة” إلى أوكرانيا والاكتفاء بالدعم الإنساني، ربما باستثناء تركيا التي لها علاقات عسكرية مع أوكرانيا سابقة على الحرب.
  • دعمت دول الشرق الأوسط قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، إدانة غزو روسيا لأوكرانيا، باستثناء تصويت سوريا بالرفض وامتناع إيران والجزائر والعراق، كما دعمت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرافض لضم أجزاء من أوكرانيا لروسيا. ومع ذلك امتنعت دول المنطقة، بما في ذلك تركيا والسعودية والإمارات ومصر، عن الانضمام لجهود عزل روسيا اقتصاديا، دون أن تتحدى العقوبات الغربية الخاصة بتوريد مكونات محددة لموسكو. وكذلك امتنعت غالبية دول المنطقة عن تأييد تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، باستثناء ليبيا التي أيدت القرار. ومع تطور الحرب، أظهرت تركيا ودول خليجية اتجاها لتعزيزها اقتصاديا، بينما عززتها إيران والجزائر عسكريا.
  • كانت أحد الانعكاسات الرئيسية للحرب على الشرق الأوسط هي بروز انقسامات اقتصادية بين قوى المنطقة؛ حيث تسببت الحرب في حصد غالبية دول الخليج أرباحا قياسية من عائدات صادرات النفط والغاز، في حين تواجه بعض دول المنطقة أزمات اقتصادية حادة مع ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية، خاصة مصر والأردن وتونس ولبنان، بالإضافة للتضخم القياسي في تركيا والأزمة الاقتصادية في إيران المرتبطة أكثر بتشديد العقوبات. وقد تسببت هذه التطورات في زيادة وتيرة التنافس الاقتصادي بين الدول التي حققت أرباحا ضخمة كما هو الحال بين السعودية والإمارات، كما أدت أيضاً إلى خلق توترات سياسية كما هو الحال بين السعودية ومصر بسبب الاختلاف حول شكل وطريقة الدعم المادي الذي تقدمه الرياض إلى القاهرة.

مخاوف تمدد النفوذ الروسي والصيني تعيد اهتمام واشنطن بالشرق الأوسط

  • أدت الحرب الروسية الأوكرانية، مع تصاعد التنافس الأمريكي الصيني، إلى إبطاء وربما توقف التراجع الأمريكي عن مسؤوليات أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، حيث باتت من بين أولويات الولايات المتحدة ضمان عدم تمدد النفوذ الروسي والصيني في منطقة الشرق الأوسط، وبقاء علاقات قوى الإقليم مع بكين وموسكو بعيدة عن الجوانب العسكرية والتكنولوجية الاستراتيجية. وفي هذا الإطار؛ حرصت الولايات المتحدة على إعادة التأكيد على التزامها تجاه دول الخليج أمنيا وعسكريا، وحلفائها العرب عموما، وذلك من خلال التزام واشنطن بتطوير دفاعات حلفائها الإقليميين، وضمان عدم حاجتهم للجوء إلى منافسيها
  • سعت واشنطن لخلق بيئة جيوسياسية هادئة في منطقة الشرق الأوسط، وتجنب توتر علاقاتها مع حلفائها بالمنطقة؛ مما يمنحها المزيد من التركيز على مناطق أكثر أولوية في صراعها مع كل من الصين وروسيا. وفي هذا الإطار أعلنت واشنطن ضمن وثيقة استراتيجية الأمن القومي الصادرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن التزاماتها تجاه منطقة الشرق الأوسط، والتي جاءت ضمن خمسة محاور، أكدت على مواصلة واشنطن دورها الأمني في المنطقة، بما يشمل تعزيز التكامل الإقليمي وضمان أمن شركائها من التهديدات الإقليمية والخارجية، بالإضافة إلى تبنى مقاربة تستند إلى الدبلوماسية وبناء الشراكات والتحالفات ودعم جهود أنظمة المنطقة لتحقيق الاستقرار.

تأمين إمدادات الطاقة يدفع الصين لتعزيز علاقاتها مع الخليج

  • ساهمت التغيرات الهيكلية التي تشهدها أسواق الطاقة العالمية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، في تحفيز الصين لتوسيع علاقاتها مع دول الخليج الغنية بموارد الطاقة، ليس فقط مع السعودية؛ ولكن أيضا قطر التي وقعت معها اتفاقا استراتيجيا لتوريد الغاز المسال لمدة 27 عاما. حيث تستهدف الصين بشكل استراتيجي ضمان تدفق النفط والغاز في حال تصاعدت التوترات بشأن تايوان إلى عقوبات غربية. بالإضافة إلى ذلك؛ فإن استمرار إمدادات الطاقة من الخليج، يمنح بكين قدرة تفاوضية كبيرة للحفاظ على أسعار وارداتها النفطية الروسية عند مستويات منخفضة.
  • وبينما تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، فإنها تبقى حريصة على أمرين: الأول، موازنة علاقاتها بين السعودية وإيران، وهو الأمر الذي حققت فيه بكين اختراقا مهما من خلال وساطتها في اتفاق تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية. أما الأمر الثاني؛ فهو عدم تغيير معادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، والتي ما زالت ترتكز على الدور الأمريكي، حيث تستفيد بكين من دور واشنطن في المنطقة كضامن للأمن والاستقرار، والذي يوفر للصين المزيد من المصالح الاقتصادية دون تقديم التزامات أمنية مكلفة.

منظومة السلاح الروسي تفقد جاذبيتها 

  • راهنت موسكو خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد حملتها العسكرية في سوريا والتي كانت بمثابة ساحة استعراض للأسلحة الروسية الحديثة، على زيادة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عبر زيادة مبيعات الأسلحة لدول المنطقة كبديل عن السلاح الأمريكي الأغلى سعراً والمقيد باشتراطات تتعلق بحقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية. لكنّ حرب أوكرانيا من المرجح أن تفضي لتراجع دور روسيا كمزود للأسلحة في الإقليم، وذلك نتيجة ما يلي:
    • أولا: كشفت الحرب في أوكرانيا أن الأنظمة العسكرية الروسية التي بالغت موسكو في تصوير قدراتها، ليست على نفس مستوى كفاءة الأسلحة الغربية في ساحة القتال، إذ إن العديد من الهجمات الروسية أصابت البنية التحتية المدنية بدلاً من أهداف عسكرية عالية القيمة، وهي إشارة إلى أن الصواريخ بعيدة المدى والمدفعية الروسية كانت بشكل عام غير دقيقة وغير فعالة -يقدر معدل فشل الصواريخ الروسية بحوالي 60% أو أكثر في بعض الأحيان- كذلك فقد النموذج الروسي للدفاع الجوي جاذبيته كبديل مكافئ للأنظمة الغربية، لا سيما بعد أن أظهرت الحرب أن أنظمة الدفاع الروسية معرضة للاستهداف من أسلحة منخفضة التكلفة مثل الطائرات بدون طيار.
    • ثانيا: تضع العقوبات الغربية القاسية والاستنزاف في معركة طويلة متواصلة روسيا في مواجهة نقص في الإمدادات العسكرية واللوجستيات وتدهور شديد في قاعدة صناعتها الدفاعية، خاصة المكونات الإلكترونية المتطورة، وهو ما يدفعها مثلا للاعتماد المتزايد على المسيرات الإيرانية. نتيجة لذلك؛ تسبب ضعف أداء الأسلحة الروسية خلال الحرب في تأثير سلبي واسع النطاق على روسيا، إذ لم يؤد فقط إلى التقليل من التأثير الاستراتيجي العام للأسلحة الروسية؛ ولكن الأهم من ذلك أنه أفقد موسكو جاذبيتها كمزود للأسلحة في سوق مزدحم مثل الشرق الأوسط يشمل موردين تقليديين مثل الولايات المتحدة والصين وفرنسا وألمانيا، فضلاً عن موردين صاعدين مثل تركيا وإسرائيل.

الخليج… مزيد من المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية 

  • جاءت حرب أوكرانيا بينما كانت تمر العلاقات السعودية الأمريكية والإماراتية الأمريكية بمرحلة إعادة تقييم، كنتيجة للسياسة الأمريكية التي أثارت شكوكا حول التزام واشنطن كضامن للأمن الإقليمي في السنوات الأخيرة، لاسيما بعد الانسحاب المفاجئ من أفغانستان، وردود فعل واشنطن البطيئة وغير الملائمة للهجمات المدعومة من إيران على الأراضي السعودية والإماراتية. الأمر الذي دفع الرياض وأبوظبي إلى تنويع علاقاتهما مع مختلف الجهات الفاعلة العالمية وتطوير علاقاتهما الأمنية والاقتصادية مع شركاء آخرين بما في ذلك روسيا والصين، بما يمنحهما مزيدا من الاستقلالية عن واشنطن، مع استمرار العمل على تجديد الشراكة الأمنية والعسكرية مع واشنطن، والسعي لوضع إطار اتفاقات واضحة يدعمها الكونغرس ولا تخضع لتقلب توجهات إدارات البيت الأبيض.
  • لذلك؛ تميل دول الخليج لإحداث توازن إزاء موقفها من الحرب في أوكرانيا، حيث امتنعت عن الانضمام للعقوبات الغربية على روسيا، كما رفضت السعودية المطالب الأمريكية بزيادة إنتاج النفط فضلاً عن قرار “أوبك بلس” المثير للجدل بخفض الإنتاج. لكن؛ وبينما حرصت هذه الدول على استمرار علاقاتها مع موسكو، فإنها أيضا استجابت للموقف الغربي المطالب بدعم أوكرانيا، وذلك عبر إرسال مساعدات إنسانية سخية إلى كييف، وأخرى عسكرية سرية شملت إرسال الإمارات والسعودية وقطر أنظمة ميسترال المضادة للطائرات، كما قدمت السعودية والإمارات ومصر صواريخ كروتال أرض- جو، فضلا عن تقديم خدماتهم الدبلوماسية في إطلاق السجناء الغربيين والأوكرانيين من الأسر الروسي. 
  • في المقابل؛ فإن حاجة واشنطن لضمان ولاء حلفائها دفع إدارة “بايدن” لإظهار جدية أكبر إزاء الالتزام الأمريكي تجاه أمن دول الخليج، وقد تجلى هذا في استضافة الرياض في فبراير/شباط الماضي اجتماعات رفيعة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، منها اجتماع “مجموعة العمل الخاصة بالدفاع الجوي والصاروخي المتكامل والأمن البحري“، واجتماع “مجموعة العمل الخاصة بإيران“، واجتماع “مجموعة العمل الخاصة بمكافحة الإرهاب“. وهي في مجملها تؤسس لتنسيق أمريكي خليجي واسع إزاء مجموعة متنوعة من التهديدات الأمنية التي تعتبرها دول الخليج ذات أولوية.
  • السعودية: أعادت حرب أوكرانيا موقع المملكة العربية السعودية المحوري في سوق الطاقة العالمي، وبدا ذلك بوضوح من خلال الزيارات المنفصلة للقادة الغربيين مثل الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني والمستشار الألماني إلى الرياض، والتي أنهت الفتور الدولي تجاه ولي العهد السعودي. وإلى جانب الأرباح الضخمة التي حققتها الرياض من الصادرات النفطية خلال عام 2022 والتي بلغت 326 مليار دولار، استعادت الرياض الكثير من زخمها الجيوسياسي على الساحة الدولية. حيث تؤثر بصورة حاسمة في موقف منظمة أوبك من خلال قدرتها على التأثير في مواقف الإمارات والكويت، فضلا عن تنامي التنسيق مع روسيا ضمن تحالف (أوبك+) وقراري خفض الإنتاج في شهري أكتوبر/تشرين أول 2022 ومارس/آذار 2023. ويشير النهج السعودي في تقرير سياسات (أوبك+) إلى مقدار الثقة التي يدير بها ولي عهد المملكة، الأمير محمد بن سلمان، علاقته مع واشنطن، مستندا لموقع بلاده كأكبر مصدر للنفط، وتنامي شعور قادة التحالف باستقلالية قرارهم وفق ما يخدم مصلحتهم.
  • الإمارات: بالرغم أن مكاسب أبو ظبي من عائدات النفط والغاز لم تكن بنفس القدر الذي حققته الرياض أو الدوحة، فإن الإمارات استعادت أهميتها الاستراتيجية كأحد مصادر تأمين إمدادات الطاقة العالمية، وهو ما يمكن ملاحظته مثلا في الاتفاق مع إيطاليا. كما ساهمت الحرب الأوكرانية أيضاً  في تعزيز سياسة الإمارات الخارجية التي اتسمت بالسعي إلى تحقيق التوازن بين التحالفات المتغيرة والقيام بدور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، وكذلك المزيد من التركيز على الدبلوماسية الإقليمية للتأكيد على دورها المحوري في المنطقة، تزامناً مع نهج تصفير المشاكل دبلوماسيا وخفض حدة التوترات الخارجية الذي تتبناه أبو ظبي منذ أواخر 2019. 
  • قطر: بالإضافة للمكاسب الاقتصادية الكبيرة الناتجة عن توسيع صادرات قطر من الغـاز المسال إلى الاتحاد الأوروبي، والتي بلغت العام الماضي حوالي 86.8 مليار دولار؛ فإن المكاسب الجيوسياسية على المستويين الإقليمي والدولي ستكون بارزة؛ حيث تعزز صادرات الغاز القطرية شراكة الدوحة الاستراتيجية مع واشنطن بصورة خاصة، كما أن مساهمة قطر بقدر كبير في أمن الطاقة الأوروبي يزيد من تأثيرها السياسي داخل الاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت الاتفاق الاستراتيجي مع الصين. لذلك؛ فإن محورية الدور القطري في معادلة أمن الطاقة العالمية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا من المتوقع أن توفر للدوحة فرصاً للاستفادة الدبلوماسية في ملفات إقليمية ودولية.

تركيا تعزز موقعها الجيوسياسي دوليا

  • نجحت سياسة تركيا “المتوازنة” تجاه الحرب في أوكرانيا في تحقيق معادلة صعبة، تمثلت في إعادة التوكيد على حيوية موقع أنقرة الجيوسياسي المهم للغرب في مواجهة روسيا من ناحية؛ والاحتفاظ بعلاقات عمل وصداقة مفيدة مع روسيا من ناحية أخرى. كما عززت الجهود الدبلوماسية الدولية التي قامت بها أنقرة خلال الحرب من وضع تركيا كوسيط قوي بين الغرب وروسيا، حيث نجحت في إعادة روسيا إلى اتفاقية نقل الحبوب، والتي توسطت فيها أنقرة بصورة أساسية، كما استضافت أنقرة اجتماعاً نادراً بين مديرا الاستخبارات الأمريكية والروسية، وقبل ذلك ساهمت تركيا أيضاً في التوسط في تبادل رفيع المستوى لـ 270 سجيناً بين روسيا وأوكرانيا. 
  • علاوة على ذلك؛ سعت تركيا من خلال سياستها “المتوازنة” تجاه الحرب إلى ضمان مكاسب اقتصادية تتمثل في استمرار تدفق ليس فقط السياح الروس، وإنما أيضا رجال أعمال ومستثمرين روس، والذين قد يجدوا في تركيا بيئة مناسبة في ظل العقوبات الغربية التي يتوقع لها أن تطول. وفي المقابل، مثلت المقاربة التركية في ظل حالة التعبئة الغربية ضد روسيا، فرصة للأخيرة للإبقاء على بعض الصداقات المهمة في أوروبا والتي تمثل قناة مفيدة لإدارة مصالحها التكتيكية، وتضمن توفير بدائل لإغلاق الأسواق الأوروبية، بالإضافة لكونها أحد الأسواق المهمة لاستقبال واردات الطاقة الروسية.
  • بشكل عام؛ تأتي سياسة “التوازن” التي انتهجتها تركيا تجاه الحرب في أوكرانيا في سياق سعي أنقرة لإرساء سياسة خارجية أكثر استقلالا عن الغرب، لكنّها ليست معادية له؛ حيث لا تخطط تركيا للتخلي عن تحالفها الاستراتيجي العسكري مع الغرب، وحتى وضع تركيا شروطا للموافقة على انضمام السويد إلى عضوية الناتو يمكن فهمه في إطار رغبة أنقرة في تبني جميع أعضاء الناتو موقفا إيجابياً تجاه أمنها القومي والعمليات العسكرية التي تقوم بها في الشمال السوري ضد عناصر حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب. كما لا تنوي أنقرة أيضاً الحد من علاقاتها الاقتصادية الواسعة مع الغرب، والحقيقة أن تركيا تعمل على تعزيز علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع شركائها الغربيين، لكنّها في المقابل تعمل على تنويع علاقاتها كي تقلل من فرص تعرضها لضغوط حلفائها وأعدائها على حد سواء.

إيران… تعزيز التحالف مع روسيا وتأزم العلاقات مع أوروبا 

  • دفعت حرب أوكرانيا إيران وروسيا نحو تعزيز علاقاتهما، حيث تستهدف طهران التغلب على القيود والتهديدات الغربية، بينما تحتاج موسكو إلى شركاء إقليميين أقوياء للتغلب على العزلة الاقتصادية التي يسعى الغرب لفرضه عليها. كما إن تعميق العلاقات بين موسكو وطهران يأتي في إطار رغبة الطرفين في إضعاف نظام الهيمنة الأمريكي عبر تحفيز بناء نظام دولي متعدد الأقطاب.
  • ومع هذا؛ فمن المبكر وصف العلاقات الإيرانية الروسية بأنها ترقى إلى التحالف الاستراتيجي، حيث تختلف مواقفهما تجاه “إسرائيل”، ومستقبل سوريا، كما يتنافس البلدان على النفوذ في آسيا الوسطى وكذلك في تصدير الغاز والنفط إلى الأسواق الدولية. بالإضافة إلى توظيف كل منهما علاقته مع الآخر كورقة للمساومة مع الغرب، وهو نهج سبق أن اتبعه كلاهما خلال مراحل الانفراج المتقطعة مع الدول الغربية. والأكثر دقة أن العلاقات الروسية الإيرانية ما زالت تتخذ طابعا تكتيكيا، حيث يتعاون كلاهما بشكل ظرفي يرتبط بالمصالح الذاتية لكل طرف، وطبيعة علاقاتهما الآنية بالغرب؛ لكن ليس من المستبعد أن تتطور العلاقات إلى مستويات استراتيجية في ظل تصاعد التحديات المشتركة.
  • تأزمت العلاقات الإيرانية الأوروبية على خلفية إمداد إيران روسيا بمسيرات في حرب أوكرانيا، وقمع الاحتجاجات الداخلية في إيران، الأمر الذي دفع الكتلة الأوروبية مؤقتا إلى إعطاء الأولوية لتشديد العقوبات على طهران بما في ذلك التهديد بإدراج الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وليس العودة إلى طاولة المفاوضات النووية التي تعطلت منذ بداية الحرب. 
  • لا تزال واشنطن والأوروبيين يعطون الأولوية للتوصل لاتفاق مع طهران حول برنامجها النووي عبر المسار الدبلوماسي، ولكن مواصلة إيران تطوير برنامجها النووي وتمسكها بشروط متشددة لاستعادة الاتفاق النووي (مثل موافقة الكونغرس)، وكذلك موقفها إزاء دعم روسيا عسكريا، ستشكل عوامل رئيسية لتحديد سيناريوهات التعامل الغربي مع إيران، والذي لم يعد يستثني الخيار العسكري ضمن بدائل منع إيران من امتلاك سلاح نووي.

مصر… مزيد من تآكل النفوذ الإقليمي

  • ساهمت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا في تسريع وتيرة تدهور وضع الاقتصاد المصري الذي كان يعاني بالفعل، إذ نتج عن الحرب موجة تضخم عالمي دفعت الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لرفع متواصل لأسعار الفائدة تسبب في خروج أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من مصر التي اعتمدت لسنوات على دوامة من الديون قصيرة الأجل، كما تعرض قطاع السياحة المصري لتأثيرات سلبية جراء انخفاض أعداد السياح الروس والأوكرانيين (الذين يمثلون حوالي 30% من أعداد السياح الذين يزورون مصر سنوياً)، ما أدى إلى تقليص أحد المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية في مصر.
  • لجأت الحكومة المصرية إلى صندوق النقد الدولي الذي قدم قرضاً صغيراً لا يتجاوز 3 مليار دولار، لكنه سيكون محفزا لتمويل آخر بقيمة 14 مليار دولار مصدره الرئيسي بيع أصول سيادية لصالح بعض دول الخليج، وليس كمساعدات أو منح، وهو الأمر الذي صاحبه إعلان القاهرة عن مخططات لبيع بعض الأصول أو حصص من ملكية الدولة لضخ مليارات الدولارات مجددا في الاقتصاد المصري.
  • يساهم الاعتماد الواسع على الشركاء الخليجيين -خاصة السعودية والإمارات- في مزيد من تآكل نفوذ مصر الإقليمي؛ في ظل أن منع أو إبطاء تدهور الاقتصاد المصري يعتمد بشكل أساسي على الاستثمارات والودائع الاستراتيجية الخليجية، وهو ما يجعل خيارات مصر الإقليمية مرتبطة إلى حد كبير بمواقف السعودية والإمارات، ويحد من قدرتها على انتهاج سياسات إقليمية أكثر استقلالية عن حلفائها الخليجيين. في نفس الوقت؛ تتزايد المخاوف على الاستقرار الاجتماعي في ظل تزايد الضغوط الاقتصادية وتوقع استمرارها.

إسرائيل… خيارات صعبة بين روسيا والغرب 

  • حاولت “إسرائيل” الحفاظ على توازن العلاقات بين روسيا والغرب، وهو ما وضعها أمام خيارات صعبة، فمن ناحية؛ تجنبت اتخاذ مواقف حادة ضد روسيـا، على الرغم من تأييدها إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الأمم المتحدة، كما تجنبت التماهي مع العقوبات الغربية ضد روسيا، ومن ناحية أخرى؛ قدمت دعما دبلوماسيا وماليا لأوكرانيا استجابة للمطالب الأمريكية. ويعزو هذا الموقف إلى رغبة “إسرائيل” في الحفاظ على التفاهمات الأمنية العميقة مع موسكو حول سوريا، إذا إن التنسيق مع روسيا التي تسيطر على المجال الجوي السوري يأتي كأولوية أمنية لإسرائيل، حيث يمنحها حرية شن غارات جوية على الأهداف الإيرانية؛ ومن ثم الحد من تنامي التهديد العسكري الإيراني في سوريا.
  • سيظل معدل التوترات بين الجانبين الروسي والإسرائيلي مرتبط بعاملين رئيسيين خلال فترة الحرب:
    • الأول: مدى تطور العلاقات الروسية الإيرانية، إذ يمكن أن يؤدي تعزيز العلاقات بين الجانبين إلى وضع موسكو بعض القيود على الأنشطة الإسرائيلية في سوريا، ومنعها من استهداف البنى التحتية الإيرانية في سوريا. كما أن تعميق التعاون العسكري بين موسكو وطهران، خاصة إذا نقلت روسيا بالفعل مقاتلات “سوخوي-35” (Su-35 Flanker M) وتكنولوجيا صواريخ من الجيل الخامس إلى إيران، سيكون بمثابة ترقية نوعية للقدرات الهجومية الإيرانية، الأمر الذي سيزيد من مخاطر التهديد الإيراني لأمن “إسرائيل”.
    • الثاني: مستوى الدعم العسكري والتقني الذي يمكن أن تقدمه إسرائيل لـ “كييف”؛ حيث أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي “إيلي كوهين”، في فبراير/شباط الماضي خلال زيارة إلى كييف، أن حكومته ستساعد أوكرانيا في تطوير نظام إنذار مبكر ذكي للكشف عن الصواريخ. والحقيقة أن هذا النظام لا يمكن مقارنته بمنظومة القبة الحديدية التي تُلح أوكرانيا في طلبه منذ اندلاع الحرب. ومع تزايد الضغوط الأمريكية والغربية على “إسرائيل” لتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا قد تقدم “تل أبيب” على الخطوة التي تجنبتها منذ بداية الحرب.