الاقتصاد المصري 2022 .. تدهور يقودها نحو مزيد من تآكل نفوذها الإقليمي
مآلات - أغسطس 2022
تحميل الإصدار

ملخص

● لم تنتج أزمة الاقتصاد المصري عن الحرب في أوكرانيا وتداعياتها؛ لكنّ الحرب عملت على تسريع النتيجة المحتومة التي حذرت منها تقديرات متواترة عن هشاشة وضع الاقتصاد المصري ومؤشرات ضعفه رغم كبر حجمه. وسيدفع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية وضيق الوقت الحكومة المصرية إما إلى الاكتفاء بقرض محدود من صندوق النقد الدولي يتضمن شروطا مخففة ستكون أيضا لها تداعيات اجتماعيا، أو الاستسلام لأجندة الصندوق من أجل الحصول على قرض كبير نسبيا وتكرار الرهان الحصري على كفاية قدرات الدولة الأمنية لاحتواء الغضب الاجتماعي.
● في إطار البحث عن سيولة دولارية عاجلة، وضعت الحكومة المصرية إستراتيجية للخصخصة تستهدف خفض دور الدولة في بعض القطاعات. كما تشمل بيع ملكية الدولة جزئيا أو كاملة في بعض الأصول المغرية للمستثمرين. وتراهن بصورة أساسية على دول الخليج الغنية لضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد المصري، مقابل شراء حصص من ملكية الدولة في هذه الأصول الاستثمارية، خاصة وأن دول الخليج ما زالت حريصة على دعم الحكومة المصرية، وضمان استقرارها الداخلي.
● تختبر مصر في هذه المرحلة حدود ثقلها الإقليمي الذي يتآكل منذ سنوات طويلة نتيجة ضعف الاقتصاد المصري، كما تكشف هذه التطورات حدود الاستقرار الداخلي الهش الذي لم يحدث نتيجة إصلاح جذور المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن استند إلى تحكم واسع من قبل الدولة في الاقتصاد المصري، خاصة عبر مؤسسات الجيش وشبكة ضيقة من رجال الأعمال، بالتزامن مع إغلاق المجال السياسي بواسطة هيمنة أمنية وإجراءات قاسية بحق المعارضين.
● للمفارقة، يواجه الآن النظام المصري شبح الانهيار الاقتصادي، ومخاوف تجدد الاحتجاجات الاجتماعية، وهي نفس الاحتمالات التي دفعته لتبني هذه السياسات منذ يوليو/تموز 2013، أي بعد نحو 9 سنوات. وبينما قد تؤدي خصخصة مشروعات تابعة للجيش إلى تراجع نسبي لنفوذه في الاقتصاد المصري على المدى المتوسط، فإن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى تراجع نفوذه السياسي في البلاد. وفي ظل احتمالات تجدد الاحتجاجات الشعبية، سيكون مستقبل الرئيس المصري مرهونا فقط ببقاء دعم الجيش له.

تدهور الاقتصاد المصري

مقدمة

  • أفادت وكالة “بلومبيرغ” في 9 أغسطس/آب 2022، أن قيمة الجنيه المصري أمام الدولار تحتاج إلى خفض يصل إلى 23% ليساهم في سد الفجوة التمويلية الهائلة في مصر والحد من تفاقم أزمة الاقتصاد المصري التي تتعرض لها البلاد. سبق هذا في مايو/أيار أن غيرت وكالة “موديز” نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، قائلة إن ذلك نتيجة “تزايد المخاطر بشأن قدرة مصر على امتصاص الصدمات الخارجية”. وأبقت الوكالة على تصنيف ديون مصر عند B2، وعند خمس درجات في المنطقة غير المرغوب فيها على قدم المساواة مع بوليفيا وجامايكا ورواندا. يعني هذا أن مصر تقترب من خفض تصنيفها الائتماني للمرة الأولى منذ 2013 من قبل أي من خبراء تقييم الائتمان الثلاثة الرئيسيين.
  • في السياق، أعلن البنك المركزي المصري عن ارتفاع الدين الخارجي للبلاد إلى 157.8 مليار دولار خلال الربع الثالث من العام المالي المنقضي في نهاية يونيو/حزيران الماضي، مقارنة بـ145.5 مليار دولار في الربع الثاني، بزيادة أكثر من 12 مليار دولار، وبما يعادل 34.6% من الناتج المحلي الإجمالي.
  • تمثل هذه أحدث تطورات أزمة الاقتصاد المصري التي تفاقمت نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا وما نتج عنه من تداعيات عالمية. فالحرب وتداعياتها لم تتسبب في الأزمة، ولكنها عملت على تسريع النتيجة المحتومة، والتي حذرت منها تقديرات متواترة عن هشاشة وضع الاقتصاد المصري ومؤشرات ضعفه رغم كبر حجمه. حيث اعتمدت سياسات الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” الاقتصادية على إحداث استقرار كلّي تقوده مؤسسات الجيش الاقتصادية وشبكات نفوذها الواسعة بالإضافة إلى القطاع العام، متجاهلة أهمية فتح المجال للقطاع الخاص، حتى هوى مستوى الاستثمارات الخاصة إلى 6% من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة أقل حتى مما كانت عليه في الحقبة الناصرية الاشتراكية.
تدخل الجيش في الاقتصاد المصري

حصاد سياسات الاستدانة وعسكرة الاقتصاد المصري

  • اعتمدت الحكومة المصرية أيضا على توسع كبير في الاستدانة من الخارج، كما راهنت بصورة مفرطة على جذب الأموال الساخنة لسوق الديون المصري المربح عبر طرح أذونات خزانة وسندات دولية بنسبة فائدة مرتفعة تتجاوز 15٪، ليس فقط لتمويل نفقات الحكومة وعجز الموازنة، ولكن لسداد الديون نفسها، وهو ما أوقع البلاد في دوامة ديون قصيرة الأجل تقوم على سداد الديون القديمة بديون جديدة وهكذا. وعلى سبيل المثال، تحتاج مصر خلال الفترة من مارس/آذار الماضي إلى نفس الشهر من العام القادم لسداد أقساط وفوائد ديون خارجية تبلغ 33 مليار دولار.
  • تلقت سياسة الاعتماد على الأموال الساخنة ضربة قاسية مع ارتفاع معدل الفائدة العالمية بعد أن رفع البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي سعر الفائدة خلال العام الجاري عدة مرات؛ فقد انسحب مستثمرو الديون قصيرة الأجل من السوق المصرية، بما قدّرته الحكومة المصرية بخروج نحو 20 مليار دولار من استثمارات المحافظ الأجنبية من السوق المصرية خلال عدة أشهر فقط في الفترة ما بين نهاية العام الماضي والربع الأول من العام الجاري.

بالإضافة لذلك، أضاف الغزو الروسي لأوكرانيا عدة عوامل ساهمت في تسريع وتيرة تدهور وضع الاقتصاد المصري، أبرزها:

  1. اعتماد مصر الكبير على استيراد السلع الأساسية، خاصة القمح الذي تعد مصر أكبر مستورد له في العالم، وتستقبل نحو 80% من وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا. وبسبب ارتفاع أسعار القمح إلى مستويات قياسية نتيجة الحرب، من المتوقع أن تنفق الحكومة المصرية نحو 4.4 مليارات دولار على القمح في العام الجاري مقارنة بنحو 2.7 مليار دولار في العام الماضي. بالإضافة إلى التسبب في زيادة كبيرة في فاتورة دعم الخبز التي تتحملها الحكومة.
  2. أدى ارتفاع أسعار النفط هو الآخر إلى استنزاف مزيد من موارد مصر المالية المحدودة، لاسيما وأن مصر تعد مستوردا صافيا للنفط الخام والمشتقات البترولية. وأدت القفزات القياسية لأسعار النفط والتي تخطت في بعض الأحيان حاجز 120 دولارا للبرميل إلى مضاعفة الإنفاق الحكومي على واردات النفط ومشتقاته، وذلك بعد أن كانت قيمة برميل النفط التي أقرتها الحكومة المصرية في موازنة العام المالي الماضي تبلغ 61 دولاراً فقط.
  3. تعرض قطاع السياحة المصري لتأثيرات سلبية جراء انخفاض أعداد السياح الروس والأوكرانيين، مما أدى إلى تقليص أحد المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية في مصر؛ حيث يمثل السياح الروس والأوكرانيون وحدهم نحو 30% من أعداد السياح التي تزور مصر سنوياً. نتيجة لذلك، انخفضت عائدات السياحة إلى 2.4 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري، مقارنة بنحو 3 مليارات دولار في الربع الأخير من عام 2021.
  • في المقابل، بدأت الحكومة المصرية بهدوء خفض قيمة الجنيه منذ شهر مارس/آذار الماضي بنحو 22% تزامنا مع بدء مفاوضاتها للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، وارتفعت معدلات التضخم الأساسي* في مصر ليصل إلى 14.6% في يونيو/حزيران الماضي وهو المعدل الأعلى منذ عام 2017، الأمر الذي قد يؤدي لمزيد من الاستياء الشعبي، لاسيما وأن نحو 30% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، وتشغل فئة الشباب ثلثي معدل البطالة في البلاد.
  • خروج الأموال الساخنة وزيادة كلفة الواردات حدت من توفر الدولار لدى الحكومة، فلجأت للسحب من الاحتياطي النقدي المحدود الذي تناقص بشكل ملموس من نحو 41 مليار دولار في فبراير/شباط 2022 إلى نحو 33 مليار دولار في نهاية يوليو/تموز. كما فرض البنك المركزي المصري قيودا على عمليات الاستيراد، للحفاظ على كمية الدولار المحدودة في القطاع المصرفي، وهو ما ساهم في رفع أسعار بعض السلع وأثار غضب قطاع الأعمال خاصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة العاملة في بعض القطاعات والتي أصبح عمليا من المستحيل عليها الاستيراد.
  • اضطرت مصر مجددا إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي في مارس/آذار للحصول على قرض يتخطى حاجز 10 مليارات دولار. ونالت مصر بالفعل حصة وافرة من قروض صندوق النقد خلال السنوات الماضية؛ حيث حصلت عام 2016 على تسهيل ائتماني من الصندوق بقيمة 12 مليار دولار لتنفيذ برنامج للإصلاحات، ثم تلقت عام 2020 قرضا بقيمة 8 مليارات دولار لمواجهة الآثار الاقتصادية لجائحة كوفيد19. لذلك، من غير المرجح أن تكون قيمة القرض الجديد كافية لرفع احتياطات مصر من النقد الأجنبي بصورة كافية أو تخفيف الضغوط على ميزان المدفوعات**، ولكن الحكومة تفترض أن القرض سيساهم في استعادة ثقة الاستثمارات الأجنبية مجددا.
  • يتطلب برنامج “التسهيل الائتماني” (Extended Fund Facility) الذي تسعى مصر للحصول من خلاله على قرض صندوق النقد؛ قيام الحكومة بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد المصري، تشمل اتخاذ تدابير تقشفية تخشى الحكومة من ارتداداتها المجتمعية خاصة خفض قيمة الجنيه مقابل الدولار وتقليص الدعم الموجه للخبز. لذلك تشهد المحادثات الجارية بين الصندوق والقاهرة خلافا على وتيرة ونطاق “الإصلاحات”. حتى إن الرئيس المصري ناشد خلال مؤتمر صحفي جمعه بالمستشار الألماني أولاف شولتس في يوليو/تموز بالعاصمة برلين.. ناشد “أصدقاءنا في أوروبا” بالضغط على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتخلي عن “شروط الإقراض الصعبة”، لأن الواقع الموجود في مصر “لا يحتمل المعايير المعمول بها خلال هذه المرحلة”.
  • لكن استمرار تدهور أوضاع الاقتصاد المصري وضيق الوقت سيدفع الحكومة المصرية على الأرجح إما إلى الاكتفاء بقرض محدود يتضمن شروطا مخففة، ستكون أيضا لها تداعيات اجتماعية، أو الاستسلام لأجندة الصندوق من أجل الحصول على قرض كبير نسبيا وتكرار الرهان الحصري على كفاية قدرات الدولة الأمنية لاحتواء الغضب الاجتماعي.

إقرأ أيضاً:

اتفاق الغاز الثلاثي يضع “إسرائيل” ومصر في معادلة أمن الطاقة الأوروبية

تطور العلاقات لا يكفي للتحالف ضد إيران، اجتماع مصر والإمارات وإسرائيل

ما أبرز مشروعات مصر لاستصلاح الأراضي؟

مآلات الاحتجاجات الشعبية في مصر

الرهان على الانقاذ الخليجي للإقتصاد المصري

من القروض إلى بيع الأصول.. الرهان على الإنقاذ الخليجي

  • وضعت الحكومة المصرية في منتصف مايو/أيار الماضي وفي إطار البحث عن سيولة دولارية عاجلة، إستراتيجية للخصخصة تستهدف خفض دور الدولة في بعض القطاعات، بما يشمل الخروج الكامل من نحو 79 قطاعا والخروج الجزئي من 45 قطاعا آخر، بالإضافة إلى استهداف زيادة دور القطاع الخاص في إجمالي الاستثمار إلى 65٪ في غضون ثلاث سنوات.
  • كذلك تشمل إجراءات الحكومة خطة لبيع ملكية الدولة جزئيا أو كاملة في بعض الأصول المغرية للمستثمرين، تشمل شركات قابضة وبنوكا وموانئ ومشروعات مثل القطار السريع والمونوريل. ولأن القطاع الخاص المصري ضعيف، فإن القاهرة تراهن بصورة أساسية على دول الخليج الغنية لضخ مليارات الدولارات مجددا في الاقتصاد المصري، لكنْ هذه المرة ليست كمنح أو قروض، ولكن مقابل شراء حصص من ملكية الدولة في أصول استثمارية.
  • ما زالت دول الخليج حريصة على دعم الحكومة المصرية، فهذه الدول تعتبر أن الحفاظ على الوضع في مصر وضمان الاستقرار الداخلي ضرورة للأمن الإقليمي. لذلك، طوال السنوات الماضية، أبقت السعودية والإمارات والكويت على ودائع طويلة الأجل بالبنك المركزي المصري بإجمالي 15 مليار دولار لدعم الاحتياطي النقدي في البلاد. وقامت السعودية مؤخرًا بتمديد آجال استحقاق جميع ودائعها حتى عام 2026؛ ومن المرجح أيضًا أن يتم تأجيل الديون المستحقة للإمارات والكويت.
  • لم يتوقف الدعم الخليجي على الودائع فقط ولكنه يشمل الآن الاستجابة لدعوات الحكومة المصرية للاستثمار في شراء أصول مملوكة للدولة وعمليات استحواذ في العديد من الشركات المصرية في الأشهر القليلة الماضية، نرصدها فيما يلي:
    • أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) ارتفاع قيمة الاستثمارات الإماراتية في البلاد بنحو 170% على أساس سنوي لتصل إلى 1.9 مليار دولار في النصف الأول من العام المالي 2021/2022. كما اشترت شركة “أيه دي كيو” القابضة الإماراتية (تتبع صندوق أبو ظبي السيادي) حصصا في 5 شركات مصرية بقيمة إجمالية بلغت 1.8 مليار دولار في أبريل/نيسان. وخلال اجتماع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع نظيره الإماراتي محمد بن زايد في مدينة العلمين الجديدة الشهر الجاري، ناقشا استحواذ الإمارات على حصة قد تبلغ 51% في شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير (حكومية)، ورغبة الإمارات شراء مبنى وزارة الخارجية الشهير بمنطقة كورنيش النيل، بالإضافة إلى ملف جزيرة الوراق المتعثر في ضوء عدم قدرة الدولة على إخلاء كامل الجزيرة وتسليمها للمستثمر الإماراتي دون صدام مع سكانها.
    • في نفس السياق، كشفت تقارير مصرية عن ثلاث صفقات استحواذ كبيرة يعتزم صندوق الاستثمارات العامة السعودي (حكومي) القيام بها في مصر، تشمل حصصا بكل من شركة مصر للألمنيوم (20-25%) والمصرف المتحد (99.9%) والشركة المصرية للإنتاج الإعلامي (10-25%). ويأتي هذا بعد استحواذ الصندوق بالفعل خلال هذا الشهر على حصص أقلية في أربع شركات مصرية بإجمالي 1.3 مليار دولار، كدفعة أولى من خطة استثمارية في مصر تبلغ 10 مليارات دولار، وهو جزء من دعم سعودي للاقتصاد المصري الذي اهتز نتيجة خروج 20 مليار دولار من استثمارات الأجانب في أدوات الدين.
    • أما من جانب قطر التي اتفقت بالفعل مع الحكومة المصرية في مارس/آذار الماضي على ضخ استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار، فقد بلغت المفاوضات بين جهاز قطر للاستثمار وصندوق مصر السيادي مرحلة متقدمة للاستحواذ على حصص في شركات تتركز في قطاعات التكنولوجيا المالية والطاقة المتجددة والزراعة والإنشاءات. من بينها “إي فاينانس” و”فوري”، بالإضافة لشركة مصر للأسمدة (موبكو) التي استحوذت السعودية والإمارات بالفعل على حصة 25% و20% من قيمتها على الترتيب.
  • لم تقتصر خطط بيع الأصول المصرية على الشركاء الخليجيين فقط، إذ تشير بعض التقارير إلى اتجاه الحكومة المصرية إلى تسوية جزء من ديونها المستحقة للصين بقيمة 8 مليارات دولار مقابل التنازل عن بعض الأصول المملوكة للدولة. بالإضافة إلى عرض حصص مملوكة أيضا في موانئ ومطارات على سبيل الاستثمار بإجمالي يبلغ 10 مليارات دولار أخرى.

تحديات الاستقرار الداخلي وتآكل النفوذ الخارجي

  • في ظل هذه الأوضاع، تبدو خيارات الحكومة المصرية محدودة جدا إزاء اتباع تدابير تقشفية على المدى القصير؛ ليس فقط استجابة لشروط صندوق النقد، ولكن لحاجة الحكومة المتواصلة لخفض الإنفاق العام في ظل معاناة العالم من موجة تضخم من المتوقع أن تستمر في المدى القصير. سينعكس هذا في استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية في مصر، وزيادة معاناة الأسر الفقيرة أو التي تقف على أعتاب الفقر، وهي شريحة تقترب من 60٪ من إجمالي سكان البلاد. لذلك، بات من غير المستبعد أن يفضي السخط الشعبي المتزايد إلى موجات احتجاج جديدة.
  • ومع ذلك، ما زال من غير المرجح أن تشكل الاحتجاجات الشعبية المحتملة تهديدا لبقاء نظام الحكم، ويرجع ذلك إلى قبضة السلطة الأمنية التي يحول دون تمدد التظاهرات إلى احتجاجات واسعة النطاق. فلا يزال نظام الحكم يستند إلى منظومة أمنية قوية ومتشعبة في المجتمع تقودها المؤسسة العسكرية، والتي طورت خلال السنوات القليلة الماضية خططا وتكتيكات لإجهاض الاحتجاجات وقمعها متى تطلب الأمر، وحسنت من قدراتها التقنية جنبا إلى جنب مع اعتمادها على التدابير القاسية العنيفة.
  • وبالإضافة للنهج الأمني، فإن الحكومة ما زالت حريصة على تسكين غضب الطبقات الأكثر تضررا من خلال استمرار تدفق أموال المساعدات الاجتماعية. كما تعمل من خلال أجهزتها المركزية -بما فيها الجيش ووزارة الداخلية- على توفير بعض السلع الأساسية بأسعار أقل من أسعار السوق. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يزيد حلفاء مصر الخليجيون -خاصة السعودية والإمارات والكويت- من دعمهم للقاهرة خوفا من تفاقم الأوضاع وخروجها عن نطاق السيطرة وما يمكن أن يترتب على ذلك من تأثير على الاستقرار الإقليمي من وجهة نظرهم.
  • لكن في المقابل، سيساهم نهج التوسع في بيع الأصول المصرية للشركاء الخليجيين -خاصة السعودية والإمارات- في مزيد من تآكل نفوذ مصر الإقليمي؛ في ظل أن منع أو -في الحد الأدنى- إبطاء تدهور الاقتصاد المصري يعتمد بشكل أساسي على الاستثمارات والودائع الإستراتيجية الخليجية، وهو ما يجعل خيارات مصر الإقليمية مرتبطة إلى حد كبير بمواقف السعودية والإمارات، ويحد من قدرتها على انتهاج سياسات إقليمية أكثر استقلالية عن حلفائها الخليجيين.

خاتمة

  • تختبر مصر في هذه المرحلة حدود ثقلها الإقليمي الذي يتآكل منذ سنوات طويلة نتيجة ضعف الاقتصاد المصري، كما تكشف هذه التطورات حدود الاستقرار الداخلي الهش الذي لم يحدث نتيجة إصلاح جذور مشكلات الاقتصاد المصري، ولكن استند إلى تحكم واسع من قبل الدولة في الاقتصاد المصري، خاصة عبر مؤسسات الجيش وشبكة ضيقة من رجال الأعمال، بالتزامن مع إغلاق المجال السياسي بواسطة هيمنة أمنية وإجراءات قاسية بحق المعارضين. فللمفارقة، يواجه الآن النظام المصري شبح انهيار الاقتصاد المصري، ومخاوف تجدد الاحتجاجات الاجتماعية، وهي نفس الاحتمالات التي دفعته لتبني هذه السياسات منذ يوليو/تموز 2013، أي بعد نحو 9 سنوات.
  • وفي إطار إستراتيجية الحكومة لتعزيز الاستثمار الأجنبي وحاجتها الملحة لفتح الاقتصاد المصري أمام مشاركة القطاع الخاص، والتي من المتوقع أن يدعمها صندوق النقد، من المتوقع خصخصة عدد من المؤسسات الاقتصادية التي يملكها الجيش. وقد يؤدي ذلك إلى تراجع نسبي للنفوذ الاقتصادي الكبير للجيش في المدى المتوسط، لكنّه لن يؤدي بالضرورة إلى تراجع نفوذه السياسي في البلاد. وفي ظل احتمالات تجدد الاحتجاجات الشعبية، سيكون مستقبل الرئيس المصري مرهونا ببقاء دعم الجيش له.

*  يشتق معدل التضخم الأساسي من الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين مستبعدا منه بعض السلع التي تتأثر بصدمات العرض المؤقتة.

**  يشمل ميزان المدفوعات كلا من ميزان المعاملات الجارية (الصادرات والواردات والسلع والخدمات وتحويلات المصريين بالخارج)، وميزان المعاملات المالية (حركة رؤوس الأموال/استثمارات أجنبية)