استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2022: تنافس جيوسياسي حاسم مع الصين وهزيمة روسيا
سياقات - أكتوبر 2022
تحميل الإصدار

الحدث

أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” يوم الأربعاء 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، والتي تأتي بعد خمس سنوات من آخر إصدار للاستراتيجية في عهد الرئيس السابق “دونالد ترامب”، كان قد تم تأجيل الإعلان عن وثيقة الاستراتيجية في الشتاء الماضي، بعد أن أصبح من الواضح أن الغزو الروسي لأوكرانيا على الأبواب، وحتى يتسنى لإدارة “بايدن” مراجعة أولوياتها في ضوء تطورات الحرب الروسية الأوكرانية.

استراتيجية "بايدن" للأمن القومي الأمريكي

التحليل: استراتيجية “بايدن” للأمن القومي الأمريكي تقر بأن المنافسة مع الصين باتت “حاسمة”

  • اتسمت استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي التي أطلقتها الإدارات الأمريكية المختلفة خلال العقود الماضية بأنها تحمل توجيهات وإشارات لنوايا الإدارات المتعاقبة تجاه كل من حلفاء وأعداء الولايات المتحدة خلال فترات زمنية محددة، وتوفر وثيقة الأمن القومي الأمريكي نافذة على التحديات التي تواجه البيت الأبيض داخليا وخارجيا، وتحدد الأولويات القصوى بشأن قضايا الأمن القومي، كما تعطي الوثيقة نظرة أوسع حول الكيفية التي تعتزم بها واشنطن تعزيز مصالحها الحيوية.
  • تؤكد استراتيجية إدارة “بايدن” للأمن القومي الأمريكي على أن جوهر الصراع القادم سيكون بين ما وصفته بـ “الديمقراطيات” مقابل “الأنظمة الاستبدادية”؛ الأمر الذي سينعكس بشكل مباشر على صميم مصالح وأهداف الأمن القومي الأمريكي في المنظور القريب، وفي هذا الإطار؛ تستهدف الاستراتيجية تعزيز نظام دولي يفضّل الديمقراطية من خلال حشد الديمقراطيات ذات التفكير المماثل للعمل والتعاون بطريقة مشتركة، مع التركيز على استعادة القيم الديمقراطية في الداخل الأمريكي والتي تضررت بشدة في السنوات القليلة الماضية.
  • تُبرِز وثيقة الأمن القومي الأمريكي تحديين استراتيجيين يتعين على واشنطن مواجهتهما، هما:
    • أولا: التنافس بين القوى العظمى لتشكيل مستقبل النظام الدولي
    • ثانيا: التعامل مع التحديات العابرة للحدود الوطنية، والتي تشمل قضايا في مقدمتها تغير المناخ وتحول الطاقة والتضخم والإرهاب وانعدام الأمن الغذائي والأمراض المعدية.
  • ترى الوثيقة أن اصطفاف الصين وروسيا مع بعضهما البعض آخذ في التزايد، ومع ذلك تؤكد أن التحديات التي يفرضها كل منهما مختلفة بصورة مهمة.

أولا: الصين

  • تركز وثيقة الأمن القومي الأمريكي بشكل مستمر على الصين التي تصفها بالمنافس الوحيد الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وفي نفس الوقت –وبخلاف روسيا- لديه الموارد الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف، تستثمر الصين في تحديث جيشها بشكل متسارع بحيث نمت قدراته ليس فقط في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولكن بات بإمكانه التمدد أبعد من ذلك، كما تستخدم مواردها الاقتصادية والتكنولوجية لإكراه الدول الأضعف، ومحاولة التأثير على المنظمات الدولية، لذلك؛ تؤكد الوثيقة على أن السنوات العشر القادمة ستكون هي العقد الحاسم في المواجهة مع الصين والتي ستحدد موقع الولايات المتحدة التنافسي لفترة طويلة في المستقبل.
  • في المقابل؛ تحدد الوثيقة استراتيجية أمريكية ثلاثية الأبعاد لمواجهة الصين خلال هذا “العقد الحاسم”، كما يلي:
    1. الاستثمار في أسس القوة الأمريكية في الوطن: التنافسية، والابتكار، والمرونة، والديمقراطية.
    2. مواءمة الجهود الأمريكية مع شبكة الحلفاء والشركاء، والعمل معهم على أهداف ومصالح مشتركة.
    3. التنافس بمسؤولية مع الصين للدفاع عن المصالح الأمريكية ولبناء رؤية أمريكية للمستقبل.
  • تعطي الوثيقة أهمية كبرى للتحديث العسكري لمواجهة التهديدات الصينية في الفضاء والبحر والفضاء الإلكتروني وكلها ساحات تحتاج إلى أسلحة وبرامج واستراتيجيات غير تقليدية، وبينما يقع التفوق التكنولوجي في قلب المنافسة الجيوسياسية طويلة الأجل بين الجانبين، تؤكد الوثيقة على تجنب الاعتماد على التكنولوجيا الصينية في المجالات التي تثير مخاطر الأمن القومي الأمريكي، وفرض قيود على نقل التقنيات الحيوية – خاصة أشباه الموصلات (Semiconductors) – من أمريكا وحلفائها إلى الصين؛ من أجل ضمان سيطرة واشنطن على سلاسل التوريد التكنولوجية باعتبارها أحد المصادر الرئيسية للنفوذ الجيوسياسي في المستقبل القريب، بالإضافة للاستثمارات طويلة المدى في الداخل الأمريكي لزيادة القدرة على إنتاج أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا.
  • فيما يتعلق بالتهديدات الصينية لتايوان، تركز الوثيقة على ردع بكين عن أي هجوم عسكري على جزيرة تايوان في المدى القريب، حيث تؤكد على أن الولايات المتحدة “تعارض أي تغييرات أحادية الجانب للوضع الراهن من أي من الجانبين”، وفي الوقت نفسه تستخدم الوثيقة لغة لا تستعدي بكين حيث تؤكد واشنطن أنها “لا تدعم استقلال تايوان”.

ثانيا: روسيا

  • فيما يتعلق بروسيا، جاءت الاستراتيجية صريحة بأن الولايات المتحدة ستعمل مع الشركاء لضمان تعرض روسيا لفشل استراتيجي في أوكرانيا، وقد اختلفت هذه الوثيقة الجديدة عن وثائق سابقة خلال العقدين الماضيين، حيث أشارت إلى أهمية العمل على دمج روسيا مع الغرب، وعلى العكس من ذلك؛ سلطت الوثيقة الضوء على الخطر الحاد الذي تشكله روسيا على النظام الدولي عبر مساعيها لرسم حدود وطنية جديدة، ووصفت سياسة روسيا خلال العقد الماضي بأنها “إمبريالية”، وأن الرئيس “فلاديمير بوتين” بعد جهود التعاون معه من قبل الغرب أثبت بأنه لن يتغير.
  • وتحدد الوثيقة نهج مواجهة روسيا والذي بات يعتمد على مسار الحرب في أوكرانيا، كما يلي:
    1. دعم أوكرانيا، ومساعدتها على التعافي اقتصاديًا، وتشجيع اندماجها الإقليمي مع الاتحاد الأوروبي.
    2. التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو ومنع روسيا من الإضرار بالأمن والديمقراطية والمؤسسات الأوروبية.
    3. التزام الولايات المتحدة بالردع، وعند الضرورة بالرد، على الإجراءات الروسية التي تهدد المصالح الأمريكية، بما في ذلك الهجمات الروسية على البنية التحتية والديمقراطية الأمريكية.
    4. عدم السماح لروسيا أو لأي قوة أخرى، بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها، حيث سيضعف الجيش الروسي التقليدي نتيجة الحرب، مما سيزيد على الأرجح اعتماد موسكو على الأسلحة النووية في تخطيطها العسكري.
    5. ستدعم الولايات المتحدة وتطور أنماطًا براغماتية للتفاعل مع القضايا التي يمكن أن يكون التعامل مع روسيا بشأنها مفيدًا للطرفين.
مبادئ استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تجاه الشرق الأوسط

الشرق الأوسط

  • تعترف الوثيقة بعدم واقعية الاعتماد الأمريكي السابق تجاه منطقة الشرق الأوسط على السياسات المتمحورة حول القوة العسكرية وتغير الأنظمة بالقوة، وفي المقابل تتبنى مقاربة تستند إلى الدبلوماسية وبناء الشراكات والتحالفات ودعم جهود أنظمة المنطقة لتحقيق الاستقرار، أي تقر الوثيقة صراحة الانتقال من الخطط الكبيرة إلى خطوات عملية براغماتية.
  • تُظهر الوثيقة مواصلة واشنطن لدورها الأمني في منطقة الشرق الأوسط، بما يشمل تعزيز التكامل الإقليمي وضمان أمن شركائها من التهديدات الإقليمية والخارجية، بالإضافة إلى التأكيد على منع إيران من تطوير أسلحة نووية وذلك عبر المسار الدبلوماسي أو استخدام وسائل أخرى -لم تحددها- حال فشل الدبلوماسية، بينما لم تقدم استراتيجية تجاه الأزمة السورية، واكتفت فقط بالتركيز على جهود واشنطن لمنع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، والحفاظ على خفض التصعيد، واستمرار العمل مع حلفاء واشنطن المحليين -قوات سوريا الديمقراطية- في مناطق الشمال الشرقي لسوريا.
  • كان من اللافت أن المنطقة لم تظهر ضمن ساحات تحالف الولايات المتحدة محل الأولوية، وحينما أشارت إلى التحالفات التي ستعمل على تعميق التعاون معها، حددت مجموعة الاندو-باسيفيك كواد Indo-Pacific Quad (أستراليا، الهند، اليابان، الولايات المتحدة)؛ مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ تحالف أوكوس AUKUS (أستراليا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة)؛ وأخيرا؛ مجموعة I2-U2 (الهند، إسرائيل، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة) وهي المناسبة الوحيدة التي ذكرت فيها دولا من الشرق الأوسط ضمن تحالفات واشنطن محل الاهتمام.

الخلاصة

  • تظهر الوثيقة بصورة واضحة أن الولايات المتحدة ليس لديها شك في قدرة الصين على تهديد زعامتها الدولية، وأنه بدون إجراءات أمريكية منسقة دوليا عبر شبكة تحالفاتها وشركائها فإن الصين سيمكنها إعادة تشكيل النظام الدولي استنادا إلى مواردها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية المتنامية، في المقابل؛ لا تمثل روسيا من وجهة النظر الأمريكية تهديدا “قطبيا” بعد أن كشفت حرب أوكرانيا عن حدود قوة موسكو، والتي لم تعد تمثل إلا تهديدا أمنيا لأوروبا أكثر من كونها منافسا دوليا، تمتلك روسيا، مثل الصين، نوايا جادة في إعادة هيكلة النظام الدولي، لكنها بخلاف الصين لا تمتلك الموارد الكافية للقيام بذلك، كما أنها ستكون أضعف بعد حرب أوكرانيا.
  • بالرغم من أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تؤكد على أن واشنطن تسعى للمنافسة والتعايش السلمي وليس إلى المواجهة والحرب الباردة مع الصين، ومع ذلك؛ ثمة تحديات كبرى ستواجه واشنطن لتنفيذ وعود التعاون والمنافسة بنجاح، لاسيما مع ربط الصين لتعاونها في قضايا حيوية مثل التغير المناخي برفع العقوبات أو تقديم تنازلات أخرى، كما أن مساعي واشنطن لتعزيز قيم الديمقراطية دولياً -والتي تراها في القلب الصراع مع الصين وروسيا- هي الأخرى ستواجه بتحديات في ظل مواصلة واشنطن دعم حلفاء وشركاء مستبدين، والتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعايير الديمقراطية، خاصة في الشرق الأوسط من أجل الاعتبارات الجيوسياسية الأكثر أولوية.