تحالف “أوكوس”.. الصراع الصيني الأمريكي يدخل مرحلة جديدة
مآلات - نوفمبر 2021
تحميل الإصدار

الملخص

• تعتمد الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصعود الصيني على إقامة تحالفات أمنية وعسكرية في نطاق ضيق، وهو النموذج الذي قدمته في تحالفها الثلاثي والأكثر إحكاماً تحالف “أوكوس” مع كلا من بريطانيا وأستراليا، بالإضافة إلى عقد شراكات مع دول من منطقة المحيطين الهندي والهادئ لا تضع حلفاء الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة مع الصين، وتُمكن واشنطن من الوفاء بالتزاماتها الأمنية نحو حلفائها.
• تفوق الصين نسبيا على الولايات المتحدة في مواجهة جائحة كورونا جعلها تدرك أكثر أن ثمة نظام دولي جديد يتشكل تقف فيه الصين على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، وقد عززت القناعة الصينية المتولدة بعد الجائحة من طموحاتها ودفعتها للمطالبة بالريادة العالمية وجعلتها أكثر حزما في وجه كل محاولات الاحتواء.
• أدركت أوروبا في السنوات الأخيرة “خطورة السياسة الصناعية الصينية وسعي بكين للاستحواذ على التكنولوجيا”، وأقرت بوجود تهديد صيني لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ يجب مواجهته بشكل مشترك مع الولايات المتحدة.
• بالرغم من سياسة بايدن الخارجية التي تبدو أقل انخراطا في الشرق الأوسط وتعطي أولوية استراتيجية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلا أن التمدد المالي والاقتصادي للصين في منطقة الشرق الأوسط والروابط القوية التي بدأت تنسجها بكين مع غالبية القوى الإقليمية ستفرض على الولايات المتحدة تعميق علاقاتها مع حلفائها الرئيسين، والحفاظ على أدوارها في المنطقة دون السماح لمزيد من الفراغات التي يتسلل إليها النفوذ الصيني.
• يبدو أن تحالف “أوكوس” لن يعيد للأذهان فقط صورة الولايات المتحدة كحكليف عسكري قوي، ولكنه سيؤسس لمرحلة جديدة، عنوانها صراع جيوسياسي حاد بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وبين الصين من جهة أخرى، يعزز فرص الحرب الباردة التي تتشكل، ولكن في ثوب جديد لن يتحول فيه العالم إلى كتل جيوسياسية صلبة على غرار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

خريطة-أفكار-تحالف-أوكوس الصراع الصيني الأمريكي

تحالف أمريكي جديد

  • لم يمر على الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان سوى عدة أسابيع وبعد أن أثار موجة انتقادات عنيفة من الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة حتى أعلنت الأخيرة عن تحالف أمني استراتيجي مع كلا من أستراليا وبريطانيا تحت مسمّى تحالف “أوكوس” (AUKUS)، وبالرغم من أن الإعلان عن التحالف لم يحمل أي إشارة صريحة إلى الصين إلا أن التحالف الذي يمتد جغرافيا من الولايات المتحدة إلى المحيط الهادئ مرورا بأوروبا لم يكن من الصعب فهم أن عنوانه الرئيسي هو مواجهة صعود الصين ومساعيها في أن تصبح القوة الاقتصادية والعسكرية المهيمنة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ (Indo-Pacific Region).
  • برزت أهم ملامح تحالف “أوكوس” من خلال إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا عن تزويد أستراليا بأسطول من الغواصات المتقدمة التي تعمل بالطاقة النووية، وهي المرة الثانية التي تشارك فيها الولايات المتحدة تقنياتها النووية المتطورة بعد مشاركتها لصالح بريطانيا بموجب اتفاقية في عام 1958، بالإضافة إلى إعلان التحالف عن خطط لا تقل أهمية عن الغواصات النووية تتعلق بالتعاون المشترك في مجال التكنولوجيا العسكرية الجديدة، بما يشمل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّيّة (Quantum Computing) والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت.

“منطقة المحيطين الهندي والهادئ”..
بين المصالح الأمريكية والصعود الصيني

  • برز مصطلح منطقة المحيطين الهندي والهادئ (Indo-Pacific) مع استخدامه بكثافة من خلال الإدارة الأمريكية في عهد ترامب، ليبرز معه اهتمام الولايات المتحدة المتزايد بالمنطقة وسياستها الجديدة تجاه تنامي الصعود الصيني.
  • تعتبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ حلبة رئيسية للتنافس والصراع الحالي بين الولايات المتحدة والصين، وتمتد جغرافيا من الساحل الأفريقي الشرقي المطل على المحيط الهندي إلى جنوب المحيط الهادئ مرورا بجنوب شرق آسيا. زادت القيمة الاستراتيجية للمنطقة بشكل كبير مع بدايات العقد الماضي ومع التغيرات التي طرأت عليها، حيث تزايد ثقلها السياسي والاقتصادي والديمغرافي بشكل متسارع مما جعلها واحدة من أهم المناطق الساخنة في العالم والتي تشير كثير من التوقعات إلى أنها ستساهم في تشكل خريطة التفاعلات الدولية وتحديد مستقبل النظام الدولي في العقود المقبلة.
خريطة 1
  • من النقاط الحيوية التي أكسبت منطقة المحيطين الهندي والهادئ ثقلها هي وقوع بحر الصين الجنوبي في نطاقها الجغرافي، حيث يقع البحر بين شرق المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ ويحاط بتسع دول هي الصين وفيتنام وكمبوديا وتايلاند وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا وبروناي والفلبين، ويحتوي البحر على عدد كبير من الجزر الصغيرة والمهمة. يمتلك بحر الصين الجنوبي أهمية استراتيجية كبيرة بسبب وقوعه في نطاق مسارات الشحن البحرية الأكثر كثافة في العالم والتي يمر عبرها ما يزيد عن نصف التجارة الدولية، وهو الأمر الذي جعل بحر الصين الجنوبي مسار تنافس بين دول المنطقة والقوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين لضمان تأمين مصالحهم الجيوسياسية.

إقرأ أيضاً:

ما هي اتفاقية “أوكوس” التي قد تشعل حرب تسلح إقليمية في المحيط الهادئ؟
قمة الناتو 2030 تطلق مواجهة مفتوحة بين الغرب والتحالف المضاد له
تقرير حالة دولة: روسيا
اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية في عهد “بايدن”

عاملان رئيسيان أسهما في تفاقم الصراع وزيادة حدة التوتر بين الجانبين الأمريكي والصيني، يمكن أن يقدما إجابة عن السبب وراء تزايد التخوفات الأمريكية من الصعود الصيني في السنوات الأخيرة.

أولاً: تصاعد قوة الصين عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا

  • كشفت السنوات الأخيرة عن تنامي قوة الصين في عدة مجالات رئيسية، على المستوى العسكري شهدت نفقات الصين العسكرية زيادة هائلة في العقد الأخير، وفي عام 2021 بلغت النفقات 186 مليار دولار، ورغم أن هذا الرقم لا يمثل سوى ثلث الإنفاق العسكري الأمريكي إلا أنه في ذات الوقت أكبر من ميزانيات القوى الكبرى الأخرى لنفس العام، وهو مؤشر هام على الشوط الذي قطعته الصين في سباق التسلح العسكري الدولي. على الجانب الآخر، يبدو تنامي القوة الاقتصادية الصينية في السنوات الاخيرة أكثر وضوحا من أي وقت مضى لاسيما مع تطورالسياسة الصناعية الصينية والتمدد الهائل للصين عبر سلاسل التوريد العالمية وهو الأمر الذي انعكس على الاقتصاد العالمي، فبينما كانت الولايات المتحدة في منتصف القرن الماضي تمثل نصف الاقتصاد العالمي (نصف الإنتاج العالمي من السلع والخدمات) أصبحت الآن تمثل 24% منه فقط، في حين تمثل الصين 16% من الاقتصاد العالمي.
  • بالإضافة إلى نمو القوة العسكرية والاقتصادية الصينية، بدا أن التفوق التكنولوجي للصين هو الآخر أحد العوامل التي أزعجت الولايات المتحدة والغرب، وكما هو واضح فأن عمليات الاستحواذ الصينية على شركات التكنولوجيا الغربية وصلت إلى الحد الذي يعتقد فيه البعض أن القوانين والسياسات الغربية لمواجهة الاستحواذ الصيني قد جاءت بعد فوات الآوان، وتشير الأرقام إلى حقائق مهمة عن الاستحواذ التكنولوجي الصيني، حيث استحوذت الشركات الصينية بما في ذلك عملاق التكنولوجيا الصيني “هواوي” على 38% من براءات اختراع تكنولوجيا الجيل الخامس (5G)، مقارنة بنحو 17% للشركات الأمريكية.

ثانياً: سياسة صينية خارجية أكثر جرأة واستعدادا للمواجهة

غيرت الصين في السنوات الأخيرة من سياستها الخارجية وفعلها الميداني في مناطق النفوذ الاستراتيجي وطورت أسطولها البحري لتصبح أكثر قدرة على مواجهة جيرانها وأكثر تطلعا للهيمنة الإقليمية، وأبرز مظاهر ذلك التغير ما يلي:

  • اهتمام كبير من الجانبين الأمريكي والصيني في بحر الصين الجنوبي. مصالح واشنطن في البحر تعتمد على تأمين الملاحة للسفن العسكرية والتجارية الأمريكية التي تجوب منطقة المحيطين الهندي والهادئ عبر بحر الصين الجنوبي، في حين أن مصالح بكين تعتمد على تحويل البحر إلى مجال حيوي لمصالحها السياسية والاقتصادية، فضلاً عن احتياطات النفط المتوقعة في البحر والتي تأمل من خلالها الصين أن تقلل من اعتمادها الكبير على واردات النفط من الخارج.
  • زادت الصين في السنوات الأخيرة من حجم أسطولها البحري مع نشر قواعد عسكرية على الجزر الموجودة داخل بحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى قيامها بإنشاء جزر صناعية داخل البحر لأغراض عسكرية واقتصادية، وتجادل الصين أنها صاحبة السيادة على 90% من مساحة بحر الصين الجنوبي مما يمنحها الحق في السيطرة على جميع الأنشطة البحرية، العسكرية والاقتصادية والتجارية. تسبب السلوك الصيني في توترات حادة بينها وبين غالبية الدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي، وبطبيعة الحال في زيادة التنافس الجيوسياسي بينها وبين الولايات المتحدة.
  • ارتفاع مستوى التوترات بين الصين وجزيرة تايوان المدعومة من الولايات المتحدة، إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، بعد محاولات الصين المتكررة خلال السنوات الأخيرة اختراق المجال الدفاعي للجزيرة بواسطة طائرات مقاتلة.
  • يمتد الصراع بين الصين وجزيرة تايوان إلى مساحة أخرى تتقاطع مع مصالح أمريكية وغربية تتعلق بمضيق تايوان الذي يفصل بين الجزيرة والصين ويربط بحر الصين الجنوبي بالمحيط الهادئ، ويمثل المضيق أهمية استراتيجية للولايات المتحدة باعتباره أحد نقاط التحكم في بحر الصين الجنوبي، ويمكن هنا فهم الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لجزيرة تايوان والتي جعلتها تكشف مؤخرا عن تواجدها العسكري على الجزيرة لتدريب الجيش التايواني ضد أي هجوم صيني محتمل.
خريطة 2
  • تحول العلاقات بين الصين وأستراليا والتي شهدت تعاونا تجاريا كبيرا إلى سلسلة لا تنتهي من التوترات، بدأت بفرض الصين حظرا تجاريا على أستراليا كرد فعل على مطالبة أستراليا بإجراء تحقيق دولي مستقل حول منشأ فيروس كورونا، ووصلت التوترات إلى ذروتها في منتصف العام الجاري بانسحاب أستراليا من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، في المقابل علقت الصين جميع أنشطة الحوار الاقتصادي الاستراتيجي مع أستراليا.
  • اعلان الصين في سبتمبر الماضي عن قانون بحري جديد ضد السفن الأجنبية المارة بالمياه الإقليمية الصينية بما يشمل بحر الصين الجنوبي ومساحات مائية أخرى متنازع عليها، ويهدد القانون بإشعال صراعات بين الصين من جهة والولايات المتحدة والدول التي تعتقد أن القانون ما هو إلا تأكيد على محاولات الصين فرض سيادتها وتعزيز نفوذها العسكري بما يهدد جميع الأنشطة البحرية في المنطقة.

إقرأ أيضاً:

اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية في عهد “بايدن”
الانتخابات الرئاسية واتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية
الحضور الصيني في الشرق الأوسط.. نقطة توتر مؤجلة

“أوكوس”.. تحالف استراتيجي في نطاق ضيق

  • تدرك الولايات المتحدة أن الصين تحولت لخصم استراتيجي ربما تتفوق خطورته على خطورة الاتحاد السوفيتي في أفضل أوقاته، وتدرك أيضا أن سياستها تجاه الصين ستختلف عن سياسة الاحتواء التي اتبعتها تجاه الاتحاد السوفيتي خلال حقبة الحرب الباردة، فاختلافات الظروف والسياقات تبدو واضحة.
  • ويبدو أن عددا من حلفاء الولايات المتحدة ونتيجة لروابطهم الاقتصادية والتجارية العميقة مع الصين يتخوفون من جرهم لمواجهة مباشرة مع الصين في سياق الصراع الأمريكي الصيني. وفي نفس الوقت تحرص تلك الدول على تحالفاتها مع الولايات المتحدة، تحول هذه المعادلة المعقدة دون تمكن الولايات المتحدة من التوسع في اتباع نهج الحرب الباردة واحتواء الصين وعزلها دبلوماسيا والتحول إلى معسكرين أحدهما أمريكي والآخر صيني.
  • هذا الواقع المختلف عن واقع الحرب الباردة القديمة دفع الولايات المتحدة لتبني استراتيجية مختلفة تركز على تحالفات عسكرية محدودة، وتحالفات أخرى أكثر اتساعا، تشمل بجانب المجال الأمني المجالات الاقتصادية والتكنولوجية وقضايا تغير المناخ، كما هو الحال في التحالف الرباعي “كواد” (QUAD) مع اليابان والهند وأستراليا.
  • والحال أنه يبدو واضحا الآن أن التحالف الأمريكي الجديد “أوكوس” مختلفا عن التحالفات الأمريكية الأخرى، حيث يبدو قاصرا على عدد محدود من الحلفاء، لإدراك الولايات المتحدة أن توسعة هذا النوع من التحالفات ربما يعطل هدفه الاستراتيجي، نظرا لتعقيدات التحالفات الواسعة ومصالحها وأولوياتها المتباينة والتي تحد من فاعليتها وثقلها.
  • تسعى الولايات المتحدة في هذا التحالف الثلاثي إلى تحقيق توازن القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عن طريق إقحام أستراليا في ساحة الصراع الأمريكي الصيني من خلال تعظيم قوتها البحرية لمواجهة القدرات المتزايدة للقوة البحرية الصينية، والوصول إلى تحقيق توازن القوى الذي يمنع الهيمنة الصينية في المنطقة. ويبدو أن الغواصات النووية التي ستتسلمها أستراليا كجزء من اتفاقية التحالف قادرة بشكل كاف على تحقيق هذا الدور، حيث تستطيع قطع مسافات طويلة في أعماق البحار وبسرعة أعلى نسبيا من الغواصات العادية، وهو ما يجعل نطاقها أوسع وأقل عرضة للانكشاف، ويمنحها القدرة على أداء مهام في المحيطين الهندي والهادئ، بالإضافة إلى إمكانية تزويدها بأسلحة نووية.
  • إجمالاً، يبدو أن عنوان الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصعود الصيني هو التركيز على تحالفات أمنية وعسكرية في نطاق ضيق، وهو النموذج الذي قدمته في تحالفها الثلاثي والأكثر إحكاماً تحالف “أوكوس”، مع السماح بمشاركة أوسع من دول منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال شراكات أخرى لا تضع حلفاء الولايات المتحدة في مواجهة صريحة ومباشرة مع الصين، وفي نفس الوقت تُمكن الولايات المتحدة من الوفاء بالتزاماتها الأمنية نحو حلفائها في المنطقة.
  • من خلال هذا النمط من التحالفات، تتعامل الولايات المتحدة مع واقع علاقات الصين وروابطها التجارية القوية من خلال مجموعة شراكات مع حلفاء متعددين تحت لافتات مختلفة لتصل إلى تحقيق هدفها الرئيسي في مواجهة تصاعد القوى الاقتصادية والعسكرية للصين ومنع هيمنتها على منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

تداعيات وانعكاسات استراتيجية

لن تتوقف تداعيات تحالف “أوكوس” على مساحة الصراع بين الولايات المتحدة والصين فقط ولكنها بالتأكيد ستتمدد لتشمل انعاكسات دولية وإقليمية هامة.

أولاً: رد فعل الصين بين الأدوات الاقتصادية وتكثيف الأنشطة العسكرية

  • ساهم النجاح النسبي للصين في مواجهة جائحة كورونا بالمقارنة مع الولايات المتحدة وباقي القوى الدولية في إدراكها لموقعها الدولي بعد الجائحة، وأن ثمة نظام دولي جديد يتشكل تقف فيه الصين على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، وبعد الجائحة تعززت طموحات بكين الأمر الذي دفعها للمطالبة بالريادة العالمية وفي نفس الوقت التهديد بالرد الحازم على أي محاولات لاحتوائها. وكما هو واضح فإن السياسة الخارجية الصينية خلال فترة الجائحة تختلف عن سياستها في العقود السابقة، وهو ما يجعل رد الفعل الصيني على تحالف عسكري بحجم تحالف “أوكوس” يبدو مختلفا وفي أكثر من اتجاه، مشكلا الملامح الرئيسية لاستراتيجية الصين لمواجهة الولايات المتحدة.   
  • لا تستبعد بعض التقديرات إمكانية تورط القوتين في مواجهة غير مباشرة أو محدودة، في حين يظل خيار المواجهة العسكرية الشاملة مستبعدا في المدى المنظور. تفتقر الصين حاليا، وخلال السنوات القادمة، للقدرات والخبرة التي تمكنها من خوض مواجهة مباشرة، وهو ما يجعل بكين أكثر حذرا في مواجهة مساعي الاحتواء الأمريكية المتزايدة.
  • على مستوى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ستستمر الصين في تكثيف أنشطتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي لاختبار مدى فاعلية التحالف الأمني الجديد. وعلى الجانب الآخر، تستطيع الصين أن تستخدم روابطها الاقتصادية القوية في تعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، بالإضافة إلى بناء علاقات مع دول جزر المحيط الهادئ والتي ربما ستشكل حلبة المنافسة في السنوات القادمة بين الولايات المتحدة والصين، وفي نفس الإطار، ستسعى الصين إلى تقليل مساحات التعاون الاستراتيجي للولايات المتحدة مع دول المنطقة، وهي هنا تستطيع أن تستخدم أدواتها الاقتصادية كأوراق ضغط لتمنع دول المنطقة من تشكيل تحالفات جديدة مع الولايات المتحدة أو كسياسة عقابية للدول التي دخلت بالفعل في تحالفات.
  • يمكن أن تمثل العلاقات الصينية الأسترالية نموذجا لقوة الأدوات الاقتصادية الصينية ومدى تأثيرها، ويكفي الإشارة إلى أن الصين استقبلت 81% من إجمالي صادرات إستراليا الخارجية من خام الحديد في عام 2020، وحصل الاقتصاد الأسترالي مقابل هذا الحجم الضخم من الصادرات على عائد يقدر بـ 136 مليار دولار، وهو ما يجعل صادرات خام الحديد الأسترالي إلى الصين الأكبر حجما والأعلى قيمة بين الصادرات الأسترالية. قامت الحكومة الصينية في مطلع العام الجاري بالإعلان عن نيتها استخدام تكنولوجيا حديثة لإعادة تدوير المخلفات الحديدية والبحث عن إمدادات بديلة من دول أخرى بما يؤدي إلى تخفيض صادرات خام الحديد الأسترالي إلى النصف في السنوات الخمس القادمة، ويبدو أن الصين بعد إعلان تحالف “أوكوس” ستمضي قدما في خطتها الساعية لخفض وارداتها من خام الحديد وتكبيد أستراليا خسائر اقتصادية ليست بالقليلة. 
  • على المستوى الدولي، لن تتوقف الصين عن بناء علاقات قوية قائمة على التعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي، وخاصة مع الدول النامية التي تتلاقى مصالحها مع الاستراتيجية الصينية، مع حرص الصين على تأطير علاقاتها الاقتصادية في منتديات متعددة تقودها مع عدد كبير من البلدان وفي أقاليم مختلفة، كما هو الحال في منتديات التعاون العربية والأفريقية.

ثانياً: توافق أوروبي أمريكي رغم التوترات

  • تغيرت النظرة الأوروبية للصين خلال السنوات الأخيرة، بعد انخراطها في علاقات اقتصادية متطورة مع الصين، أدركت أوروبا مع مرور الوقت خطورة السياسة الصناعية الصينية والاستحواذ التكنولوجي الذي تسعى إليه والتهديد الذي تمثله الصين لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ ذات الأهمية الاستراتيجية، وتحولت النظرة الأوروبية لاعتبار الصين تحديا دوليا يجب مواجهته بشكل مشترك مع الولايات المتحدة.
  • من خلال التغيرات التي طرأت على النظرة الأوروبية للتهديد الصيني يمكن فهم تأثير تحالف “أوكوس” على العلاقات الأوروبية الأمريكية، وهو إن كان قد ساهم في حدوث بعض التوترات ولكنه لن يقف أمام الرغبة المشتركة للجانبين في مواجهة الصعود الصيني، فبعد يوم واحد من إعلان تحالف “أوكوس” أعلن الاتحاد الأوروبي عن استراتيجيته في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي استراتيجية لا تعتمد بقدر كبير على وسائل عسكرية في مواجهة الصين ولكنها تعتمد على إقامة شراكات اقتصادية وتعاون وثيق مع دول المنطقة فيما يبدو أنها تتكامل مع تحالف “أوكوس”.
  • على صعيد العلاقات الأمريكية الفرنسية، رغم الغضب الفرنسي من إعلان تحالف “أوكوس” الذي تسبب في خسارة باريس لصفقة بمليارات الدولارات، والمطالب الفرنسية بتبني الاتحاد الأوروبي لاستراتيجية أمنية مستقلة، من المهم الأخذ في عين الاعتبار أن فرنسا من أكثر الدول الأوروبية المطالبة باستراتيجية أمنية أكثر حسما في مواجهة التهديد الصيني، بالإضافة إلى بعض الأدوار التي تلعبها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما يجعل احتمالات تفاقم الأزمة بين فرنسا والولايات المتحدة أقل مما يمكن أن نتصوره، ويمنحنا فهما للغضب الفرنسي الذي يبدو أنه قصير المدى في مقابل الرغبة الفرنسية الجادة في تعاون استراتيجي أكثر عمقا وعلى المدى البعيد مع الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

ثالثاً: الدفاع عن النفوذ في الشرق الأوسط

  • تبني الولايات المتحدة لسياسة الانسحاب من الشرق الأوسط منذ إدارة “أوباما” الثانية، والذي تعزز بصورة لا تدع مجالا للشك منذ قدوم إدارة “بايدن”، لن يمنعها من مواجهة التمدد الاقتصادي والاستراتيجي للصين في منطقة الشرق الأوسط والروابط القوية التي تشكلها مع القوى الإقليمية، خاصة إيران والسعودية وتركيا ومصر وحتى “إسرائيل”، وسيفرض على واشنطن الموازنة بين حاجتها لتحويل مواردها إلى مناطق أكثر أولوية مثل حوض الباسيفيك، وبين الدفاع عن نفوذها التقليدي في الشرق الأوسط.
  • وتشير الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على السعودية والإمارات و”إسرائيل” على خلفية صفقات عسكرية أو تعاون في التكنولوجيا المتقدمة خاصة G5، ومشروعات استراتيجية مثل ميناء حيفا أو قاعدة أبوظبي، إلى جدية واشنطن في عدم التفريط في نفوذها في المنطقة لصالح الصين، خاصة بعد أن حققت الصين خطوات استراتيجية من خلال ضم إيران في شراكة طويلة الأجل، وضم باكستان لمبادرة “الحزام والطريق”، وقد أمّنَ لها التواجد في ميناء “جوادر” تواجدا استراتيجيا على بحر العرب، يتكامل مع تواجدها العسكري الواسع في جيبوتي على باب المندب.
  • على الجانب الآخر، تدرك دول المنطقة وفي مقدمتها دول الخليج الصعوبة المتزايدة في تحقيق توازن في العلاقات مع الولايات المتحدة الضامن الرئيسي لأمن دول الخليج والحليف الأمني والعسكري الأول من جهة، والعلاقات مع الصين التي تعد المستورد الأكبر للنفط والغاز الخليجي ( تستورد الصين 25% من إجمالي صادرات النفط السعودي)، والتي أصبحت في مقدمة الشركاء التجاريين لدول المنطقة عموما.
  • ومع تصاعد الصراع الأمريكي الصيني، من المرجح أن تتزايد الضغوط على دول المنطقة للحد من فتح المجال أمام نفوذ الصين. وستسعى الولايات المتحدة بالتالي لإعادة تمتين علاقاتها مع شركائها التقليديين في الشرق الأوسط، والذي سيجعلها تقدم المصالح الجيوسياسية الواسعة على كثير من القضايا الخلافية وقضايا الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان في مقابل الحد من التمدد الصيني في الشرق الأوسط، والتي ستكون البديل العسكري والأمني المحتمل الذي يوفر الحماية لدول بالمنطقة في حال أظهرت واشنطن تقاعسا عن ممارسة هذا الدور. لكنّ هذه العملية مازالت غير مرجحة خلال العقد الجاري على الأقل.

إقرأ أيضاً:

سيناريوهات الانتخابات الأمريكية وتأثير نتائجها على فاعلية الإدارة القادمة
مستقبل المسارات الكبرى في النظام الدولي
الصين وتحديات صراع الهيمنة الدولية


المصادر