تحطم نظرية الأمن الإسرائيلية في عملية “طوفان الأقصى”
سياقات - أكتوبر 2023
تحميل الإصدار

الحدث

أعلن وزير الدفاع في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، يوآف غالانت، أن الحرب في قطاع غزة تتكون من 3 مراحل، تبدأ بتدمير حركة حماس من خلال الحملة العسكرية التي تستهدف الحركة وبنيتها التحتية؛ وأضاف الوزير الإسرائيلي أن المرحلة الثانية ستكون الاستمرار في القتال لكن بكثافة أقل “للقضاء على أي جيوب للمقاومة”؛ فيما تتمثل الخطوة الثالثة في “إنشاء نظام أمني جديد في غزة، وتخلص إسرائيل تماما من مسؤوليتها عن الحياة اليومية في القطاع غزة، وخلق واقع أمني جديد لمواطني إسرائيل وقاطني (المناطق المجاورة لغزة)”.

عقب طوفان الأقصى، الاحتلال يبحث عن بديل لنظرية الأمن الإسرائيلية

التحليل: عقب طوفان الأقصى، الاحتلال يبحث عن بديل لنظرية الأمن الإسرائيلية

انبثقت نظرية الأمن الإسرائيلية من أطروحة “زئيف جابوتنسكي” (1880-1940)، الأب الروحي لليمين الإسرائيلي، والتي نشرها في مقالتين عام 1923 بعنوان “الجدار الحديدي”، حيث رأى أن التوصل إلى اتفاق مع العرب غير ممكن، لأنهم لن يتخلوا عن أرضهم وحقوقهم، وبالتالي فإن الصراع معهم حتمي، وهو ما يتطلب إقامة جدار حديدي يستند إلى بناء قوة عسكرية رادعة بما يكفي لتوليد اليأس في قلوب العرب ودفعهم للتنازل عن فلسطين. وأكد على أن السلام مع العرب سيصبح ممكنا فقط بعد إلحاق هزائم عسكرية قاسية بهم، مما يدفعهم لتقبل وجود إسرائيل، وعدم جدوى مقاومتها عسكريا.

 

  • فور تأسيس دولة الاحتلال عام 1948، أشرف رئيس الوزراء الإسرائيلي وزير الدفاع آنذاك، ديفيد بن جوريون، على بلورة نظرية أمن قومي منبثقة من أطروحة ” الجدار الحديدي”، واستندت إلى قلة عدد سكان إسرائيل مقارنة بمحيطها العربي، وافتقادها إلى عمق دفاعي لمحدودية مساحتها الجغرافية، ولذا اعتمد نموذج “كل الشعب جيش” والذي يجعل جيش الاحتلال أكبر جيش في العالم من حيث حجمه الذي يعتمد على قوات الاحتياط مقارنة بعدد السكان. 
  • بُنيت نظرية الأمن الإسرائيلية على ثلاث مرتكزات: الردع، التفوق الاستخباري، والحسم السريع:
    • أولا، الردع: عبر امتلاك قوة عسكرية، متفوقة، تثني الخصوم عن مهاجمة “إسرائيل” خوفا من التعرض للتدمير على يد جيشها، والذي رغم كونه جيشا نظاميا صغيرا، لكن مع قوات احتياط ضخمة وفق نهج “كل الشعب جيش”.
    • ثانيا، التفوق الاستخباري: بهدف توفير إنذار مبكر يتيح إحباط التهديد بشكل استباقي، كما يوفر الفرصة لتعبئة الاحتياط في الوقت المناسب للتصدي للتهديدات، باعتبار أن تعبئة الاحتياط تمثل ضرورة. ويعتمد التفوق الاستخباري على المصادر المتعددة لجمع المعلومات مثل: المصادر البشرية، والاختراق السيبراني، والتنصت الإلكتروني، والتصوير الجوي، والاستفادة من تبادل المعلومات مع أجهزة الاستخبارات الصديقة، وهو ما يتيح الحصول على معلومات تفصيلية حول نوايا الخصم، وحجم قواته، وتسليحها، وأماكن تمركزها، وتحركاتها.
    • ثالثا، الحسم السريع: بواسطة الدفاع الصلب على امتداد الحدود لمنع الخصم من احتلال أي جزء من الأراضي التي يسيطر عليها الاحتلال، ونقل الحرب إلى أرض العدو في أسرع وقت ممكن، وامتلاك سلاح جو قادر على تقديم المساعدة للقوات البرية من أول ساعة قتال، وشن هجوم استباقي في حال وجود خطر جسيم أو محتمل، والقضاء على التهديدات في أسرع وقت ممكن لمنع حشد قوات الاحتياط لوقت طويل.
  • وُضعت نظرية الأمن الإسرائيلية لمواجهة قوات نظامية وقت صراع دولة الاحتلال مع الجيوش العربية، ولكن عقب اتفاقيات السلام مع مصر ثم الأردن، وغزو العراق عام 2003، تراجعت التهديدات من الدول العربية، وبرزت ضمن التهديدات حركات وتنظيمات المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وحزب الله في لبنان. ولذلك؛ صك الاحتلال مصطلحات جديدة ضمن عقيدته الأمنية مثل “كي الوعي”، و”جز العشب”، و”المعركة بين الحروب”
  • تقوم “المعركة بين الحروب” على اتخاذ تدابير هجومية استباقية تعتمد على معلومات استخباراتية عالية الجودة بهدف ردع العدو وإبقاء القتال خارج أراضي “إسرائيل”، وإضعاف الخصوم دون الاضطرار إلى خوض حرب واسعة معهم، وهو ما يتضمن تقويض قدرات الخصم العسكرية أولا بأول، أو  “جز العشب”، وتكبيده خسائر فادحة بشرية ومادية حال انخراطه في هجمات معادية تكون كافية لعملية “كي الوعي” لمنعه من محاولة تكرار تلك الهجمات في ظل تيقنه من أنه سيدفع ثمنا باهظا، وهو ما يكفل في المحصلة الحفاظ على فترات طويلة من الهدوء إلى أقصى حد ممكن، بغية توفير الاستقرار الضروري لتطور الدولة، وضمان ازدهارها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والسماح بإعادة توجيه الموارد نحو التعليم والعلوم وغيرها من المجالات المدنية لتعزيز الإمكانات الشاملة لإسرائيل.
  • ضربت عملية طوفان الأقصى مرتكزات نظرية الأمن الإسرائيلية؛ فلم تردع القوة الإسرائيلية كتائب القسام عن التفكير في شن هجوم واسع يشمل عشرات المستوطنات والمواقع الإسرائيلية، ولم تتمكن الاستخبارات الإسرائيلية من الحصول على أي معلومات مسبقة عن الهجوم، ونجح المقاتلون الفلسطينيون في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي المحتلة للمرة الأولى. أيقظ هذا الانهيار مجددا هواجس احتمال انهيار دولة الاحتلال في ظل صمود الفلسطينيين وصلابتهم رغم القمع والحصار، كما قوّض الشعور بالأمان والاستقرار الذي أتاح المزيد من عمليات الهجرة والاستيطان خلال العقود الأخيرة.
  • بغض النظر عن تداعيات الحملة الإسرائيلية الوحشية الحالية على غزة، فقد انهارت نظرية الأمن الإسرائيلية، وتهاوت نظريات “كي الوعي” و”جز العشب”، وأثبتت مقاربة “المعركة بين الحروب” فشلها في تقويض قدرات المقاومة أو ردعها عن تنفيذ هجوم ضخم مثل الذي نفذته صبيحة 7 أكتوبر/تشرين أول. ولذا؛ تعكس تصريحات قادة الاحتلال على وقع الصدمة، وعلى وقع أزمة ثقة تهز الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بأن النموذج الأمني والاستراتيجي السابق انتهى، وهو ما يعني أنهم بصدد البحث عن فرض “نموذج جديد” وبناء نظرية أمن جديدة، ترمم جاذبية “إسرائيل” وسمعتها المنهارة كملاذ آمن لليهود من أنحاء العالم. لكنّ هذه مهمة لا تبدو بسيطة أو قريبة المنال، بغض النظر عن مآل الدمار الحاصل في قطاع غزة.