من إندونيسيا إلى قلب أوروبا: مقاتلات ومسيرات تركيا ترسم حدودا واسعة لنفوذها الجيوسياسي 
سياقات - يونيو 2025
تحميل الإصدار

الخبر

في حدثين متزامنين يكشفان عن تنامي ثقل الصناعات الدفاعية التركية عالميًا، أعلنت أنقرة عن أول صفقة تصدير لمقاتلتها من الجيل الخامس “قآن” إلى إندونيسيا، وتتضمن إنتاج وتسليم 48 مقاتلة بقيمة 10 مليارات دولار خلال عشر سنوات. وجاء التوقيع خلال معرض الدفاع الإندونيسي في جاكرتا، بحضور الرئيسين أردوغان وبرابوو سوبيانتو. وفي باريس، وعلى هامش معرض الطيران الدولي، وقّعت شركة “بايكار” التركية للصناعات الدفاعية اتفاقية تعاون مشترك مع شركة “ليوناردو” الإيطالية، إحدى أكبر شركات الصناعات الدفاعية في أوروبا. وجاءت الاتفاقية بعد دخول أداة “العمل الأوروبي من أجل الأمن” (SAFE) حيّز التنفيذ، وهي آلية تتيح للدول الأوروبية تمويل استيراد معدات دفاعية من دول غير أعضاء في الاتحاد، من بينها تركيا.

من إندونيسيا إلى قلب أوروبا مقاتلات ومسيرات تركيا ترسم حدودا واسعة لنفوذها الجيوسياسي 

التحليل: تركيا تعيد تعريف دورها الدفاعي عالميا

تُظهر الصفقتان أن تركيا لم تعد تتموضع كفاعل أمني هامشي ضمن الناتو، تتلقى السلاح من الغرب وتخضع لشروطه، بل تعيد صياغة موقعها كقوة دولية متوسطة يصعب استبعادها من طاولة الصناعات الدفاعية الدولية. في آسيا، يتعزز التموضع التركي من خلال تقديم بديل للدول التي تسعى لتجنب تناقضات الأحلاف الكبرى بين الصين والولايات المتحدة. أما في أوروبا، فإن تغير المزاج الاستراتيجي – بعد الغزو الروسي لأوكرانيا والاتجاه الأمريكي لفك الارتباط الأمني التاريخي مع أوروبا – يسمح لتركيا بتأكيد موقعها باعتبارها شريكا أمنيا استراتيجيا يمكن الوثوق به، لا كتهديد يُحتوى. وبهذا، تتحول الصناعات الدفاعية التركية إلى نقطة ارتكاز لإعادة تعريف العلاقة مع الأطراف الدولية، لا باعتبارها تابعًا أمنيًا، بل طرفًا فاعلًا في مستقبل الصناعات الدفاعية.

رغم هذا الزخم، تواجه الصناعات الدفاعية التركية تحديات عميقة، قد تعيق استدامة هذا التمدد، أبرزها ما يلي

  • يتطلب التطوير الثابت لقطاع الصناعات الدفاعية توفر ميزانيات مرتفعة، وتأمين التمويل اللازم لأبحاث التطوير وعمليات التصنيع التي لا تحقق عوائد اقتصادية مباشرة في الأجل القريب. ولذلك، تعتمد تركيا على تطوير شراكات مع دول أخرى يمكنها تقديم التمويل للتصنيع المشترك. 
  • إن تسليم 48 مقاتلة لإندونيسيا خلال عشر سنوات يتطلب توسعة كبيرة في القدرات الإنتاجية، دون تأخير الجدول الزمني المخصص للجيش التركي، ما يفرض ضغطًا على الشركات التركية في إدارة الأولويات والموارد. 
  • لا تزال بعض المكونات الأساسية في “قآن” و”بيرقدار” تعتمد على سلاسل توريد غربية، ما يجعلها عرضة لفرض قيود أو تعطيل خطوط التصنيع إذا تغير المزاج السياسي في العواصم الكبرى. 
  • قد تتحول الشراكات المفتوحة إلى موضع تنافس داخلي في أوروبا، إذا ما بدأت الشركات التركية في اقتطاع حصص سوقية حقيقية، لا مجرد ملء ثغرات مؤقتة.
  • وبالتالي، فإن نجاح تركيا في تثبيت موقعها المستقل كمصدر ومصمم للشراكات الدفاعية يتطلب استثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد في الاكتفاء التكنولوجي، وتنويع الشركاء، وبناء تحالفات تحصّن المشروع الصناعي من الارتدادات الجيوسياسية وتقلبات المشهد العالمي.

صفقة “قآن” إلى إندونيسيا نقطة تحول في مسار الصناعات الدفاعية التركية

يمثل تصدير مقاتلات “قآن” إلى إندونيسيا نقطة تحول في مسار الصناعات الدفاعية التركية؛ فهي ليست فقط أول عملية تصدير لطائرة مأهولة من الجيل الخامس تركية الصنع، بل تأتي قبل أن تدخل المقاتلة الخدمة فعليًا في سلاح الجو التركي، ما يعكس ثقة أنقرة المتزايدة في نضج مشروعها الصناعي العسكري، وقدرتها على تسويقه كمنتج استراتيجي حتى قبل اكتمال دمجه محليًا. وتفتح الصفقة الباب أمام شراكة طويلة الأمد مع إندونيسيا، أكبر دولة مسلمة من حيث عدد السكان وعضو فاعل في مجموعة العشرين، تقوم على نقل التكنولوجيا، والإنتاج المشترك، وتبادل المنفعة السياسية والصناعية.

تأتي الصفقة تتويجًا لمسار تراكمي من التقارب، بدأ مع تصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي، والذي دفع جاكرتا إلى إعادة صياغة أولوياتها الدفاعية والبحث عن مصادر تسليح أقل ارتباطًا بالتحالفات الكبرى. وبعد سنوات من الحذر الاستراتيجي، بدأت إندونيسيا تتجاوز نمط الحياد التقليدي باتجاه شراكات تكنولوجية أكثر استقلالًا. 

تُمثل الصفقة نموذجًا متكاملًا لدبلوماسية التصنيع العسكري التركي، إذ لا يُستخدم السلاح كوسيلة ضغط سياسية، بل كأداة لبناء التحالفات، وتوسيع الحضور الجيوسياسي عالميا. إذ تمنح هذه الصفقة تركيا نقطة ارتكاز استراتيجية في جنوب شرق آسيا، في قلب منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تُعد اليوم المسرح الأبرز لتنافس القوى الكبرى. وبدلًا من نموذج البيع المشروط الذي يقدمه الغرب، تقدّم تركيا نفسها كشريك إنتاج، وهي ميزة نادرة في سوق تفتقر فيه الدول الإسلامية الكبرى لخيارات صناعية سيادية. 

اتفاقية “بايكار– ليوناردو” فصل جديد في الشراكة الأمنية بين تركيا وأوروبا 

جاءت اتفاقية “بايكار– ليوناردو” بعد إطلاق أداة  “SAFE”العمل من أجل الأمن الأوروبية، مما يمثّل فرصة نادرة لإعادة إدماج تركيا في النظام الدفاعي الأوروبي عبر بوابة الاقتصاد وتكنولوجيا السلاح. فالطائرات المسيّرة التركية، التي واجهت في السابق عقبات تصديرية بسبب استخدامها في صراعات مثل كاراباخ وليبيا، أصبحت اليوم مرشحة لتصنيع مشترك ضمن آلية أوروبية مشتركة.

تمنح هذه الشراكة أنقرة موطئ قدم مباشر داخل السوق الدفاعية الأوروبية، ليس كمورّد خارجي، بل كشريك إنتاج يعمل من داخل البنية الصناعية للاتحاد الأوروبي. ويشير هذا التطور إلى تحول في المزاج الاستراتيجي داخل العواصم الأوروبية، إذ فرضت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والتوجه الأمريكي لفك الارتباط الأمني مع القارة، منطقًا براغماتيًا جديدًا، أعاد التأكيد على محورية موقع تركيا الجيوسياسي الذي يجعل من الصعب إقصاء أنقرة خاصة حين تتقاطع قدراتها مع ضرورات الأمن الجماعي الأوروبي، بالرغم من الاعتراضات السياسية التقليدية من دول مثل اليونان وقبرص.

تحتل شركة ليوناردو الإيطالية المرتبة الثالثة أوروبيًا والثالثة عشرة عالميًا في تصنيف معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) عام 2024، بإجمالي مبيعات دفاعية 12.4  مليار دولار سنويًا. أما شركة بايكار، فقد دخلت قائمة أكبر 100 شركة سلاح في العالم عام 2022، وجاءت في المرتبة 79، بإجمالي مبيعات1.9  مليار دولار. ويعود نجاح “بايكار” إلى ما هو أبعد من الكفاءة التقنية؛ إذ نجحت الشركة التركية في تطوير نموذج صناعي مرن ومنخفض التكلفة، قادر على سد فجوات قائمة منذ سنوات في القدرات الدفاعية الأوروبية، لاسيما في مجالات المسيّرات القتالية والذخائر الذكية.