حدود الممكن في العلاقات السعودية التركية بعد المصالحة الخليجية
سياقات - فبراير 2021
تحميل الإصدار

الحدث

تشير البيانات والمواقف الصادرة من أنقرة والرياض منذ فوز الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، إلى أن التحسن في العلاقات التركية السعودية قد بدأ في التبلور. أفاد مصدر لمؤسسة IHS Markit له صلات بالحكومة التركية أن البلدين فتحا قناة اتصال رفيعة المستوى لتحسين العلاقات. ووفقًا للمصدر، فإن العلاقات السيئة في ظل إدارة “بايدن” ليست في مصلحة أي من البلدين ولكن مدى التقدم سيعتمد على سياسات “بايدن” الإقليمية. كما رحب الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بالمصالحة الخليجية في قمة “العلا” بالسعودية، واعتبرها “مفيدة للغاية”، معرباً عن تمنيه أن تفضي إلى ترسيخ مكانة تركيا في التعاون الخليجي. لاحقا أبدت قطر على لسان “د. مطلق القحطاني”، المبعوث الخاص لوزير الخارجية القطري، استعدادها للقيام بوساطة بين أنقرة والرياض إذا رأى البلدان هذا. وحتى قبل اجتماع القمة الخليجي؛ تحدث الرئيس التركي والملك السعودي عبر الهاتف قبيل بداية قمة مجموعة العشرين في نوفمبر الماضي. وقالت الرئاسة التركية إن الزعيمين “اتفقا على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة من أجل تعزيز العلاقات الثنائية وتسوية القضايا”. وفي ذات الشهر، التقى وزيرا خارجية البلدين في مؤتمر لمنظمة التعاون الإسلامي في النيجر، وغرد الوزير التركي “مولود جاويش أوغلو” بأن شراكة البلدين “لن تفيد بلداننا فحسب، بل منطقتنا بأكملها”.

حسابات السعودية

  • بحسب مصادر تحدثت لوكالة بلومبرغ الأمريكية، فإن السعودية والإمارات تدرسان إمكانية إقامة علاقات أفضل مع تركيا، بما يفيد التجارة والأمن في المنطقة. لكنّ هذه التحركات لا تزال أوليّة لم يستقر العزم عليها بعد، بالنظر إلى خلفية التوترات طويلة الأمد وصراع النفوذ بين تلك الأطراف. وتسعى الرياض بشكل خاص إلى تهدئة التوترات مع تركيا من أجل الحصول على مزيد من الخيارات في المنطقة وسط فترة من عدم اليقين في العلاقات السعودية الأمريكية.
  • لا شك أن العامل الأساسي في مراجعة السعودية ملفاتها الإقليمية هو خسارة حليفها الاستثنائي في البيت الأبيض، “دونالد ترامب”، ومجيء إدارة جديدة تتبنى أولويات مختلفة، تهدد احتياجات السعودية للدعم في ملفات إقليمية خاصة الصراع مع إيران، وحرب اليمن. بالإضافة إلى اهتمام الإدارة الجديدة بملف حقوق الإنسان وهو ما يعني مزيد من محركات التوتر في العلاقة بين البلدين. والذي عبرت عنه بالفعل الإدارة الأمريكية الجديدة دون إبطاء، من خلال وقف أي دعم عسكري لحرب اليمن، وإلغاء تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، وتعليق صفقات أسلحة مهمة للسعودية، وإعلان البيت الأبيض أن الرئيس “بايدن” لا يخطط للحديث مع ولي العهد السعودي وأن اتصاله سيكون مع الملك “سلمان” مع التأكيد على قرار نشر تقرير الاستخبارات الأمريكية حول جريمة مقتل “جمال خاشقجي”، فضلا عن التوجه الرئيسي للتفاوض مع إيران والتوصل لاتفاق جديد.
  • ومع تنامي أدوار تركيا في المنطقة، قد تراهن المملكة على أن تهدئة التوترات مع تركيا يزيد من خيارات سياساتها الإقليمية، ليس فقط بهدف تجنب أن تضر بمصالح الرياض أي تفاهمات تركية إيرانية مستقبلية في حال تم رفع العقوبات الأمريكية عن إيران، ولكن أيضا من أجل كسب الدعم التركي السياسي إزاء الضغوط الأمريكية، وبالطبع في مواجه النفوذ الإيراني الذي يصطدم بالمملكة في عدة ملفات مثل العراق واليمن. ولا شك أن سعي السعودية لتحييد الخلاف مع قطر، دون إلزام الدوحة بأي تنازلات، يمثل دلالة لافتة تجعل من الأولى تحييد الخلاف مع تركيا التي تعد من أهم اللاعبين الإقليميين.
  • ثمة تقديرات أن تركيا قد تمثل مصدرا لصفقات الأسلحة التي تحتاجها المملكة في ظل تشدد إدارة “بايدن” المبكر إزاء منح السعودية الأسلحة التي تحتاجها. لكن وعلى الرغم من وجاهة هذا التقدير في ظل تنامي صناعة الأسلحة التركية في مجالات قد تثير اهتمام المملكة مثل الطائرات بدون طيار والقطع البحرية، لكنّ هذا الجانب يظل محدود التأثير في ظل تمتع السعودية بفرص واسعة للحصول على الأسلحة من المملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والصين دون التقيد بمسألة حقوق الإنسان.

حسابات تركيا

  • ثمة قضايا مختلفة قد تزيد بنسب متفاوتة من الاحتكاك بين أنقرة وإدارة “بايدن”، مثل شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، والتوترات في شرق البحر الأبيض المتوسط​​، والعلاقات بين الولايات المتحدة و”وحدات حماية الشعب” الكردية، وقضايا حقوق الإنسان، والشكوك التركية حول دعم الولايات المتحدة لمحاولة الانقلاب الفاشلة وإقامة زعيم حركة الخدمة “فتح الله جولن” في الولايات المتحدة. بالإضافة لهذا، توجد مساعي حثيثة لفرض العزلة الإقليمية على تركيا تبنتها فرنسا ومصر والإمارات واليونان وقبرص. ومن ثم أظهرت أنقرة مؤشرات لجديتها في تحسين العلاقات مع السعودية، خاصة وأن أنقرة حرصت على عدم وصول العلاقات إلى القطيعة، حتى في ذروة تصعيد ملف اغتيال “جمال خاشقجي”. 
  • في الواقع، لم تتخذ تركيا أي إجراءات لتخفيض العلاقات بين البلدين. بينما قررت السعودية بشكل غير معلن معاقبة تركيا اقتصاديا من خلال الحد من الواردات التركية إلى المملكة حتى بعد بدء مؤشرات تحسن العلاقات. فوفقا للبيانات الصادرة عن اتحاد المصدرين الأتراك (TIM)، تراجعت الصادرات التركية إلى السعودية على أساس سنوي بنسبة 92% في يناير/كانون الثاني 2021، من 221 مليون دولار إلى 16 مليون دولار فقط. فيما انخفضت صادرات تركيا السنوية إلى السعودية بنسبة 24% في عام 2020، من 3.1 مليار دولار إلى 2.3 مليار دولار. 
  • وعلى الرغم من أن صادرات تركيا إلى السعودية تبدو محدودة (1.8٪) مقارنة بإجمالي الصادرات التركية التي بلغت 171.5 مليار عام 2019؛ إلا أن المزايا الاقتصادية التي تنتظرها تركيا من السعودية لا تقتصر على الصادرات المباشرة، حيث يحتاج الاقتصاد التركي لجذب المزيد من الاستثمارات السعودية المباشرة، وضمان استمرار تدفق السائحين السعوديين إلى تركياالذين على الرغم من عددهم المحدود مقارنة بالسائحين القادمين من روسيا ودول أوروبا وإيران، إلا أنهم من بين الجنسيات الأكثر إنفاقا على الإطلاق. كذلك، تنتظر تركيا من السعودية اقتصاديا إبرام صفقات شراء أسلحة تركيا، وهي باتت من القطاعات الواعدة التي تراهن أنقرة عليها اقتصاديا وجيوسياسيا على حد سواء. ومن الجوانب الاقتصادية الأخرى، الفوائد التي ستعود على قطاع البناء التركي، والذي تأثر سلباً بالمقاطعة غير الرسمية. حيث انهارت حصة السعودية في مشاريع البناء التركية العالمية من 13.7٪ في 2018 إلى 0.1٪ في 2020. 
  • لذا، تكمن أهمية استعادة العلاقات مع السعودية ليس في قيمة الصادرات التركية للسعودية، ولكن في حقيقة أن مقاطعة الصادرات التركية تعني ضمنا توقف كل هذه المصادر المحتملة في وقت تسعى تركيا لاستعادة تألقها الاقتصادي بعد أزمة الليرة التي ألقت بظلال من الشك على حالة الاقتصاد التركي قبل انتخابات رئاسية وبرلمانية لم تعد بعيدة. 
  • على سبيل المثال، حصلت شركة النفط والغاز الطبيعي السعودية، أرامكو، على رخصة استثمار في تركيا في نوفمبر 2020، مما يشير إلى إمكانية الاستثمار في السوق التركي خلال العام 2021. فيما أعلن صندوق خاص مملوك للأمير السعودي مشعل بن عبد الله آل سعود أنه سيستحوذ على شركة الوجبات السريعة، “ماكدونالدز تركيا”، مقابل 280 مليون ليرة تركية جديدة (حوالي 46 مليون دولار أمريكي) في فبراير 2020، لكن الصفقة لم تتم بعد، ومازالت تنتظر إجراءات تنظيمية.
  • في الشق السياسي، تسعى تركيا كذلك لتعزيز خيارات سياساتها الإقليمية، حيث تواجه أنقرة تحدياً يتمثل في تكاتف منافسيها الإقليميين في أجندة تستهدف التصدي لنفوذها الإقليمي وفرض عزلة على تحركاتها، وهو ما يظهر جليا في التحالف المتنامي بين فرنسا ومصر واليونان وقبرص والإمارات وإسرائيل سواء في ملف شرق المتوسط أو في الملف الليبي. وفي الملف السوري فرض على تركيا مواجهة الهيمنة الروسية منفردة. بينما في العراق تعمل تركيا بشكل منفرد في مواجهة نفوذ إيراني وحلفاء لمحور واشنطن-الرياض-أبوظبي. من المبكر تماما توقع أن ينتج عن تهدئة سعودية تركية تغيراً استراتيجيا في تموضع السعودية في هذه الملفات؛ ومن الجدير بالذكر أن اتجاه الرياض لتحسين العلاقات لم يمنعها من المشاركة في “منتدى الصداقة” الذي عقد الشهر الجاري في اليونان، كما لم يمنعها من المشاركة بطائرات F-35 في مناورات عسكرية مع اليونان بجزيرة كريت في يناير/كانون ثاني الماضي. لكن، مع هذا، تراهن تركيا على أن تهدئة من هذا النوع ستجعل المملكة أقل حماسة لتطوير انخراطها في هذا التحالف، كما قد ينتج عنه مع الوقت قيامها بترشيد المواقف العدائية لحلفائها في القاهرة وأبوظبي ضد تركيا.

حدود الممكن: قيود الجيوبوليتيك

  • رغم إنهاء السعودية حصارها لقطر وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، إلا أن العديد من المشاكل في علاقة الرياض مع أنقرة لن يكون من السهل معالجتها. تشمل هذه العقبات بشكل أساسي نظرة كلا البلدين للمنطقة وتعريف كل منهما لما هو التهديد، ومن هم الأعداء والحلفاء. بينما تقف السعودية بشكل حاسم مع محور يعتبر الربيع العربي والإسلام السياسي تهديدا ينبغي التصدي له، تقف تركيا على الجانب الآخر تماما أقرب إلى التحالف مع هاتين الظاهرتين. وبينما تعود تركيا بصورة متزايدة كقوة إقليمية في الشرق الأوسط ومجمل العالمين العربي والإسلامي، تعتبر السعودية وحلفائها في مصر والإمارات أن أي نفوذ تركي في هذه المناطق هو خصم مباشر للقوى العربية التقليدية، قد يعزز فرص المعارضة الداخلية لهذه الحكومات ومن ثم قد يهدد هذه الأنظمة نفسها على المدى الطويل.
  • هناك عقبات مرتبطة بأشخاص العلاقة بين البلدين تحد عملية التقارب بيهما. فلا يمكن مثلاً إنكار وجود توتر أكبر بين “أردوغان” و”بن سلمان” أكثر من التوتر بين الرئيس التركي والملك “سلمان”. فقد وصفت وسائل الإعلام التركية “بن سلمان” بأنه المحرك الأساسي لموقف الرياض المناهض تركيا، وحمّلته تركيا ضمناً المسؤولية عن مقتل “خاشقجي” وهو ما أضر بسمعة “بن سلمان” سياسياً وأخلاقياً ربما إلى الأبد. في المقابل، صعّد “بن سلمان” هجومه على تركيا إلى حد وضعها ضمن “محور الشر” في المنطقة. صحيح أن كلا الطرفين يتمتعان ببراغماتية واضحة، لكن سلوك الطرفين وقت الأزمة عكس حقيقة نظرة كل طرف للآخر على المدى الاستراتيجي.
  • من جهة أخرى، ترى قيادة أبوظبي، التي تعتبر أحد حلفاء “بن سلمان” الأساسيين، أن تركيا هي أخطر دولة فاعلة في المنطقة، حتى أكثر من إيران. ويريد ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” إبقاء السعودية متحالفة بقوة مع أبوظبي ضد تركيا. ولدى “بن زايد” مصلحة في خلق فجوة عميقة بين الحكومتين السعودية والتركية، ويمكن لأبوظبي الاستمرار في اللعب بأوراقها لمحاولة إبقاء هذه التوترات عالية. وفي حين أن مستوى التقارب السعودي التركي ليس مؤكدا، فمن الآمن القول بأن أي تحسن كبير في العلاقات بين أنقرة والرياض سيترك المسؤولين في أبوظبي في حالة استياء. ومن ثم ستحتاج قيادة السعودية في الأشهر والسنوات المقبلة إلى إجراء توازنات صعبة فيما يخص تموضع الرياض في “الحرب الباردة” بين أنقرة من جهة، وأبوظبي والقاهرة من جهة أخرى.

رأي وخلاصة السياق

بالرغم من أن الولايات المتحدة ليست اللاعب المهم الوحيد الذي يؤثر في العلاقات السعودية التركية، إلا أن وصول “بايدن” إلى البيت الأبيض يتطلب تعديلات مهمة من كل من أنقرة والرياض في سياساتهما الخارجية. ومن المنطقي أن نفترض أن السعودية وتركيا ستتصرفان بشكل مختلف في فترة ما بعد “ترامب” باعتبار أن مكاسب كل بلد ستكون أكثر إذا تم تحويل مسار العلاقات الثنائية إلى علاقات أكثر دفئًا بينهما.

لذلك، سيكون علينا خلال الأسابيع القليلة القادمة متابعة بعض المؤشرات التي ستوضح إلى أي مدى ستنجح أنقرة والرياض في بناء تفاهمات جديدة، وما مدى عمق واستراتيجية هذه التفاهمات. فمثلاً، سيشير أي تنامٍ للتعاون العسكري بين السعودية واليونان، أو تواصل مقاطعة المنتجات التركية إلى أن مسار التهدئة مهدد بصورة حقيقة. وفي المقابل، قد يمثل إعلان شركة النفط السعودية أرامكو عن خططها الاستثمارية في تركيا، أو أن تفوز شركات تركية بمشروعات جديدة في السعودية، إشارة مهمة إلى أن إجراءات تحسن العلاقات تمضي قدماً.

وبشكل عام، نرجح أن يقوم البلدان أولاً بتحسين العلاقات التجارية، قبل أي تعاون أوسع. وسيعزز أي تخفيف للعقوبات الأمريكية على إيران، وربما مستقبلاً التوصل لاتفاق نووي كامل، فرص التعاون بين السعودية وتركيا للعمل معاً في ملفات إقليمية لاحتواء النفوذ الإيراني، مثل العراق وسوريا. لكن هذا الاحتمال يواجه عقبة رئيسية، هي أن أنقرة والرياض في حالة تنافس إقليمي استراتيجي، بمعنى أن هذا التنسيق، إن حدث، لن يفضي على الأرجح إلى تحالف حقيقي بين البلدين، وربما لن يترتب عليه إخلال أي منهما بمقتضيات التحالفات الإقليمية الأخرى: مع الإمارات ومصر في حالة السعودية، وقطر في حالة تركيا.

المصادر