روسيا في أفريقيا: نفوذ متصاعد لكنّ أسسه مازالت غير مستقرة
مآلات - يونيو 2023
تحميل الإصدار

الخلاصة

تعمل روسيا على تعزيز دورها في أفريقيا بحيث تكون لاعبا لا يمكن تجاوزه في القارة، وبما يفرض على الغرب التنسيق معه لمكافحة التمردات وتقليل الاضطرابات، ويعطي لموسكو أوراق قوة دولية إضافية. بالإضافة لذلك؛ فإن ثمة مناطق لها أهمية استراتيجية خاصة في الرؤية الروسية الأوسع، تشمل التواجد المؤثر في البحر المتوسط، ما يعطي للجزائر وليبيا ومصر أهمية خاصة، ومنطقة القرن الأفريقي التي تتحكم في باب المندب والبحر الأحمر، وهو ما يظهر في العلاقات مع السودان وإريتريا وأثيوبيا.
تدرك روسيا أن فرصتها محدودة جدا لمنافسة النفوذ الاقتصادي الصيني والغربي في أفريقيا، لذلك؛ تعتمد موسكو على دعم التوجهات المناهضة للوجود الغربي، وترسي آليات للتعاون العسكري والأمني تجعل من موسكو مصدر التسليح الأول للقارة، ومزودا للأمن الداخلي في عدة دول أفريقية عبر شركات خاصة مثل مجموعة فاغنر، كما أن استخدام روسيا لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لصالح حلفائها يجعلها ذات أهمية إضافية لبعض دول أفريقيا الخاضعة للعقوبات الغربية.
تزايد الاهتمام الروسي بأفريقيا بعد العقوبات الغربية التي فُرضت على موسكو عقب الحرب الأوكرانية، ومن المرجح أن يتنامى الدور الروسي في القارة في الفترة المقبلة. لكنّ ثمة عوامل ثلاثة من المتوقع أن تجعل وتيرة هذا التنامي بطيئة وغير مستقرة، هي: أولا: تأثير حرب أوكرانيا على مواصلة روسيا إمداد أفريقيا بالسلاح وتوفير المرتزقة؛ ثانيا: الضغوط الغربية على دول القارة للحد من تطوير التعاون العسكري مع روسيا؛ وثالثا: حالة الاضطراب والهشاشة التي تعاني منها بعض دول القارة، والتي تجعل من إقامة تحالفات طويلة الأجل عملية مشكوك فيها.
وفي ضوء الصدام بين مجموعة فاغنر والجيش الروسي، فإن أساس النفوذ الروسي في أفريقيا المستند في جزء مهم منه لانتشار فاغنر يبدو في أحسن الأحوال غير مستقر؛ حيث مازال من غير الواضح إن كان سيفضي هذا النزاع لتفكيك فاغنر أو إلى دمجها في الجيش، وإلى أي مدى سيؤثر على موثوقية المجموعة لدى أنظمة أفريقية كمزود للأمن الداخلي، مما ينذر بتراجع محتمل لدور المجموعة، ويؤثر بالتالي على نفوذ روسيا في القارة.

خارطة أفكار روسيا في أفريقيا

مقدمة

  • مع سقوط الاتحاد السوفيتي، انسحبت روسيا من القارة بعد أن كانت لها علاقات قوية مع دول مثل مصر والجزائر والمغرب وجنوب إفريقيا بلغت ذروتها في ستينيات القرن الماضي، لكنّها لم تلبث أن استأنفت دورها تدريجيا مع بداية القرن الحالي ووصول بوتين للحكم. 
  • عززت روسيا تواجدها الجيوسياسي في أفريقيا عقب العقوبات التي فُرضت عليها جراء ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014، حيث قدمت نفسها للأفارقة كقوة دولية صديقة، ليس لها إرث استعماري في القارة، تستطيع توفير بدائل عسكرية واقتصادية وسياسية. تزامن ذلك مع انسحاب تدريجي للقوى الغربية من أفريقيا وتنامي المشاعر المناهضة للتواجد الغربي، وتكلل هذا بعقد القمة الروسية الأفريقية الأولى في سوتشي عام 2019، لتعزيز التعاون الروسي الأفريقي، بحضور قادة 43 دولة من دول القارة البالغ عددها 54 دولة، وممثلين رفيعي المستوى من باقي الدول.
  • مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، تجنبت الدول الأفريقية الانخراط في معاقبة روسيا، بل ورفضت الكثير منها إخراج روسيا من مجلس حقوق الإنسان الأممي، لتظهر القارة كأحد ساحات روسيا الرئيسية لفك عزلتها الدولية؛ فقامت بتكثيف تواصلها الدبلوماسي مع أفريقيا تمهيداً لعقد القمة الروسية الأفريقية الثانية في يوليو/تموز القادم، حيث زار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عام 2022، كلا من الجزائر، ومصر، وإثيوبيا، وأوغندا، الكونغو، تلاها في العام الجاري بزيارة جنوب أفريقيا، وأنغولا، وإريتريا، ومالي، وموريتانيا، والسودان، وكينيا؛ بما يؤكد على أهمية أفريقيا الجيوسياسية بالنسبة لروسيا. وفي 5 سبتمبر/أيلول 2022، وافق الرئيس الروسي على عقيدة السياسة الخارجية الروسية الجديدة، والتي أكدت على التوجه لتقوية علاقات روسيا مع أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

أفريقيا في استراتيجية روسيا الواسعة

  • الهدف الرئيسي وراء تعزيز موسكو لدورها في أفريقيا هو أن تكون لاعبا لا يمكن تجاوزه في القارة، بحيث يفرض على الغرب التنسيق معه لمكافحة التمردات وتقليل الاضطرابات في دول أفريقيا، ما يعطي لموسكو أوراق قوة دولية إضافية لم تبذل الكثير من أجل امتلاكها. بالإضافة إلى وجود مناطق لها أهمية استراتيجية خاصة في الرؤية الروسية الأوسع، تشمل ضمان تواجد مؤثر في البحر المتوسط، ما يعطي للجزائر وليبيا ومصر أهمية خاصة، ومنطقة القرن الأفريقي التي تتحكم في باب المندب، وهو ما يظهر في العلاقات مع السودان وإريتريا وأثيوبيا.
  • لتحقيق ذلك؛ يرتكز التواجد الروسي في أفريقيا على الجانب العسكري والأمني؛ حيث تعد روسيا أكبر مورد أسلحة لأفريقيا بنسبة 44 % بين عامي 2017 -2021 معظمها يذهب إلى مصر والجزائر، حيث تربط روسيا علاقات وطيدة مع الجزائر من الستينيات وهي ضمن أكبر مستوردي السلاح الروسي. كما طور الرئيسان “بوتين” و”السيسي” تعاونا لافتا بين روسيا ومصر منذ العام 2015، يشمل الجوانب العسكرية والطاقة النووية السليمة. وبصورة عامة؛ صدرت روسيا أسلحة إلى 22 دولة أفريقية من أصل 54 في تلك الفترة، تليها الولايات المتحدة بنسبة 17% والصين 10% ثم فرنسا  6.1%، ولا تربط روسيا مبيعات أسلحتها بأي شروط على عكس الدول الغربية التي تربطها بأوضاع حقوق الإنسان.
  • لدى روسيا اتفاقيات تعاون عسكري مع 36 دولة أفريقية تتنوع بين توريد الأسلحة والتدريب وبناء القواعد العسكرية والاستشارات الأمنية والدفاعية، ست اتفاقيات منها وقعت عامي 2021 و 2022 مع إثيوبيا والغابون وموريتانيا ونيجيريا ومدغشقر والكاميرون؛ وعشرون خلال الفترة بين 2017 – 2021، نصفها على الأقل مع دول لم تربطها علاقات سابقة مع روسيا، وهو ما يؤكد تزايد الاهتمام بالقارة، كما قدمت روسيا دعما عسكريا وأمنياً مباشراً لحلفائها عبر قوات فاغنر منذ عام 2017، في دول أفريقيا الوسطى وموزمبيق وليبيا والسودان ومالي وبوركينا فاسو، ومؤخرا في السودان.
التواجد الروسي في أفريقيا الانتشار العسكري الروسي في أفريقيا
علاقات روسيا العسكرية مع دول أفريقيا، وأماكن انتشار مجموعة فاغنر. (المصدر: وكالة أبحاث الدفاع السويدية FOI)
  • توضح الخريطة أعلاه تسارع وتيرة الانتشار الروسي بعد عام 2015 في القارة، حيث انتهجت موسكو سياسة مزاحمة الغرب والحضور دائماً كبديل موثوق والمدافع عن سيادة الدول الأفريقية ضد الحظر والعقوبات الدولية، حيث تستخدم روسيا عضويتها في مجلس الأمن في تعزيز علاقاتها بدول القارة التي تواجه عقوبات، فعارضت فرض عقوبات على جنوب السودان عام 2019، وأفريقيا الوسطى عام 2020، وامتنعت عن التصويت ضد أي دولة أفريقية، وهو ما عزز لدى القادة الأفارقة أن روسيا من الممكن أن تكون الحليف القوي لهم في المحافل الدولية وكذلك في صراعاتهم الداخلية.
  • فمثلا عندما أوقفت الولايات المتحدة المساعدات للسودان عقب سيطرة العسكريين على السلطة في أكتوبر/تشرين أول 2021، جددت روسيا تعاونها الأمني في فبراير/شباط 2022. وفي إثيوبيا، وقعت روسيا اتفاقية دفاعية وتعاونا عسكريا تقنيا عام 2021 عقب إعلان الولايات المتحدة تقييد المساعدة الأمنية لإثيوبيا وإريتريا على خلفية الصراع في إقليم التيغراي. وبينما قطعت الولايات المتحدة مساعدتها العسكرية عن الكاميرون عام 2019، فقد جددت روسيا اتفاقية التعاون العسكري معها؛ وعلى نفس المنوال في أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو دخلت روسيا كبديل لفرنسا الفاعل التقليدي في هذه الدول.
  • على الجانب الآخر؛ استخدمت روسيا سياسة تقديم خدمات أمنية وعسكرية مقابل عقود مربحة في مجالي التعدين والطاقة، و/أو مقابل التغلغل في المنظومة الأمنية المحلية داخل دولة معينة ثم الانطلاق منها ولعب دور إقليمي أوسع. فعلى سبيل المثال؛ حصلت روسيا على عقود استخراج الذهب في السودان مقابل تقديم خدمات أمنية وتدريبية للقوات العسكرية في نظام “عمر البشير”، وعقب سقوطه ورث العلاقة قائد قوات الدعم السريع “محمد حمدان دقلو” بفعل سيطرته على مناجم الذهب، كما تكرر الأمر في أفريقيا الوسطى مقابل الحصول على الذهب والماس، وفي موزمبيق للحصول على الأحجار الكريمة والغاز الطبيعي، وفي مالي للحصول على الذهب، وفي ليبيا للسيطرة على مناطق النفط فضلا عن حاجة روسيا الجيوسياسية التقليدية للتواجد في البحر المتوسط. 
  • من الناحية الاقتصادية؛ مازالت أفريقيا تمثل أولوية متراجعة بالنسبة إلى روسيا، رغم امتلاك القارة بعض الموارد الطبيعية، وأنها سوق كبيرة يمكن أن تساعد روسيا في تجاوز العقوبات الغربية. ولا يزال التبادل التجاري بين الطرفين – باستثناء تصدير الأسلحة – ضعيفا إذا ما قارناه بالاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة، ففي عام 2020؛ بلغت واردات روسيا من أفريقيا 13.3 مليار دولار مقابل صادرات روسية للقارة بلغت 8.1 مليار دولار بمجموع نحو 21 مليار دولار، بينما بلغ التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي 275 مليار دولار يليه الصين بـ 200 مليار دولار ثم الولايات المتحدة بـ 63 مليار دولار.
  • تدرك روسيا أن فرصتها محدودة جدا لمنافسة النفوذ الاقتصادي الصيني والغربي في أفريقيا؛ حيث لا يمكنها مجاراة صادرات الصين السلعية ولا إنفاقها الواسع على المنح ومشروعات البينة التحتية، كما لا يمكنها مجاراة مبادرات الغرب التنموية التي تمولها مجموعة السبع. وبينما تطمح روسيا لزيادة التبادل التجاري مع القارة إلى 40 مليار دولار بحلول عام 2024، فإن هذه طموحات، بافتراض تحقيقها، ستبقي روسيا متراجعة خلف الهند.
التواجد الروسي في أفريقيا حجم التجارة مع افريقيا
التبادل التجاري بين روسيا وأفريقيا، مقارنة بالاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة والهند. (المصدر: مركز الدراسات الأمنية CCS)

البحث عن موطئ قدم عسكري دائم في أفريقيا

  • أحد أهم الأهداف الروسية من التوغل في أفريقيا هو امتلاك قاعدة عسكرية دائمة، تكون مكافئة لقواعد فرنسا والولايات المتحدة والصين واليابان وإيطاليا في جيبوتي المطلة على باب المندب. بدأت المساعي الروسية لإنشاء قاعدة في جيبوتي مبكراً عام 2013، ولكن الولايات المتحدة ضغطت على جيبوتي للرفض، فتقدم الروس بطلب لإنشاء القاعدة في 6 دول أفريقية أخرى، هي: السودان، مصر، أفريقيا الوسطى، أريتريا، مدغشقر، موزمبيق، وكانت الأولوية للسودان وأريتريا لموقعهما الاستراتيجي على باب المندب والبحر الأحمر.
  • في عام 2017؛ وقعت روسيا بالفعل اتفاقية مع السودان لإنشاء قاعدة استراتيجية في بورتسودان على البحر الأحمر كنقطة إمداد لوجيستية للقوات الروسية، واتخذت خطوات متقدمة عام 2018، ولكنّ سقوط البشير عام 2019 ودخول السودان في اضطراب سياسي وأمني، كما أن سعي قادة الجيش لتطبيع العلاقات مع واشنطن والغرب حال دون التنفيذ حتى الآن، حيث تذرع قادة الجيش بضرورة عرض الاتفاق على أول برلمان منتخب قبل تنفيذه، وهي خطوة غير مرجحة في المستقبل القريب بالنظر لتدهور الأوضاع في السودان، وتعثر مسار الانتقال.
  • يفضل الروس التواجد في بورتسودان لأن الاتفاق مع السودان مكتمل ويعطي صلاحيات واسعة منها الحق في استخدام مطارات السودان في نقل الأسلحة والذخيرة والمعدات اللازمة لدعم القاعدة. كما أن وجود قاعدة في الميناء الاستراتيجي يسهل من قدرة موسكو على توفير الإمداد اللوجيستي لعملياتها ومقاتليها في أجزاء أخرى من القارة. والأهم من ذلك؛ أن هذا التواجد يربط التواجد الروسي في شرق المتوسط في اللاذقية السورية بالبحر الأحمر مجددا بعد أن فقدت روسيا تواجدها البحري الاستراتيجي مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ويوفر ميزة استراتيجية تتمثل في خط بحري روسي يمتد من البحر الأسود مرورا بالبحر المتوسط ومنه إلى البحر الأحمر الذي يعني الوصول إلى المحيطين الهندي والهادئ حيث تتركز الجهود الأميركية للسنوات العشر المقبلة.
  • في ظل تعثر المشروع في السودان؛ من المحتمل أن تبحث روسيا بشكل جاد إنشاء القاعدة في إريتريا التي تتمتع بموقع استراتيجي مماثل، فقد تعززت علاقات إريتريا مع روسيا عقب انتهاء الحظر المفروض عليها من الأمم المتحدة عام 2018، وطلبت من روسيا إمدادها بالسلاح، وبدأت مباحثات حول الإمكانيات اللوجيستية لميناء مصوع المطل على البحر الأحمر وتطوير مطار المدينة لاستخدامه من قبل الروس. وبالرغم من عدم ممانعة الإريتريين فإن الروس لم يتخذوا خطوات متقدمة حتى الآن، ولكنّ روسيا واصلت حماية إريتريا من إجراءات مجلس الأمن الدولي رداً على تورط القوات الإريترية في الصراع بإقليم التيغراي الإثيوبي، في المقابل؛ كانت إريتريا هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي صوتت ضد قرار الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا
  • وفي نفس الوقت؛ تدرس روسيا بدائل أخرى غير بحرية حيث كشف وزير دفاع إفريقيا الوسطى، في مايو/أيار 2023، عن محادثات تجريها بلاده مع روسيا بشأن إنشاء قاعدة عسكرية لدعم جيش بلاده والمساعدة في حل المشكلات الأمنية وتنمية البلاد.

قوات فاغنر كأداة لبسط النفوذ والسيطرة

  • اعتمدت الاستراتيجية الروسية لتنفيذ أهدافها في أفريقيا على الشركات العسكرية الخاصة بدلا من الاعتماد على الجيوش الرسمية؛ حيث لم تقم موسكو بأي عمليات انتشار عسكري في إفريقيا خلال نصف قرن، ونفذت أنشطتها العسكرية والأمنية حصريًّا بمساعدة المرتزقة. وتشير التقديرات، إلى شركات روسيا العسكرية نفذت على الأقل 34 عملية في 16 دولة أفريقية منذ عام 2005. 
  • خلال السنوات الأخيرة؛ تلعب “مجموعة فاغنر” (Wagner Group) الدور الرئيسي في تلك العمليات، حيث بدأت منذ عام 2017 بالعمل كمستشارين في عدد من الدول الأفريقية، ثم تطورت المهام لتقديم خدمات حراسة للرؤساء والمسؤولين بجانب التدريب وتقديم المشورة والمساعدة لقوات الأمن المحلية، وحتى المشاركة مباشرة في القتال، وتعتمد قوات مجموعة فاغنر على التمويل الذاتي المرتبط بمموليها الخاصين والعقود الاقتصادية التي تجريها في الدول المعنية، ولا تكلف الإدارة الروسية أي أعباء مالية.

وتنشط مجموعة فاغنر بصورة خاصة في الدول الآتية: 

1.السودان

بدأ ظهور فاغنر في السودان عقب زيارة زيارة الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” إلى موسكو نهاية عام 2017، وطلبه بشكل علني من “بوتين” المساعدة ضد التدخلات الأمريكية في الشؤون السودانية، فبدأت مجموعة فاغنر تدريب عناصر الاستخبارات السودانية وقوات الدعم السريع على التصدي للتظاهرات مقابل عقود للتنقيب عن الذهب في عدة مواقع في جبال النوبة ودارفور وولاية نهر النيل، ولكنها لم تستطع تقديم الدعم اللازم لمنع سقوط “البشير” في أبريل/نيسان عام 2019، ونظراً لسيطرة الدعم السريع على معظم مناجم الذهب توثقت علاقة قوات الدعم السريع بفاغنر، وتم الاتفاق على الشراكة بينهما في تجارة الذهب والسلاح.

أنشأت فاغنر معسكرا قرب حدود السودان مع جمهورية أفريقيا الوسطى، استخدمته في نقل الأفراد والسلاح لدعم حكومة أفريقيا الوسطى ضد المتمردين، وفي ديسمبر/كانون أول الماضي ساهمت قوات الدعم السريع بجانب فاغنر في معارك مع المتمردين داخل حدود أفريقيا الوسطى، وفي القتال الحالي بالسودان تُقدم فاغنر دعماً لوجيستيا وفنياً أساسيا لقوات الدعم السريع في معاركها بالخرطوم.

2.جمهورية أفريقيا الوسطى

تشهد جمهورية أفريقيا الوسطى حربا أهلية منذ عام 2013، وفي عام 2017 وافقت الأمم المتحدة على قيام روسيا بمهمة تدريب عسكرية رسمية واستثنائها من حظر الأسلحة، فأقام الروس معسكرات لتدريب قوات الجيش والشرطة على مواجهة التمرد، وسيطر الروس على مناطق واسعة ضمَّت مناجم الماس والذهب واليورانيوم، كما هيمنت على كل المهام الأمنية الحساسة في البلاد، وقاد ضابط الاستخبارات الروسي “فاليري زخاروف” المفاوضات مع المتمردين بعد تعيينه مستشاراً للأمن القومي للرئيس. وفي عام 2018؛ توسع النشاط الروسي وبدأت مشاركة قوات فاغنر في القتال وحماية المسؤولين، فضلا عن استخدام العنف والترهيب لاحتكار صناعة الماس المربحة للغاية في البلاد. 

3.ليبيا

بدأ الدور الروسي في ليبيا في مرحلة مبكرة من خلال التعاون مع مصر في تدريب قوات شرق ليبيا التي يقودها الجنرال “خليفة حفتر”، وبرز تواجد فاغنر في ليبيا خلال عام 2018، ولعبوا دورا مهما في هجوم قوات “حفتر” الفاشل على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، حيث شاركوا في القتال فضلا عن قيامهم بأعمال الحراسة لحقول النفط الواقعة ضمن مناطق سيطرة “حفتر”، ومن ذلك الحين؛ يتمركزون بقاعدة القرضابية الجوية في سرت ومينائها البحري، بالإضافة إلى قاعدة الجفرة الجوية وسط ليبيا، وبحسب تقرير أممي في مايو/أيار 2020، بلغ عدد مقاتلي فاغنر في ليبيا قرابة 1000 مقاتل، لكن مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية سحبت روسيا معظمهم للمشاركة في العمليات بأوكرانيا.

4.مالي

مع بداية عام 2022؛ بدأت قوات فاغنر الانتشار بشكل رسمي في مالي من أجل تقديم الدعم العسكري واللوجيستي للجيش، وفق اتفاق ينص على نشر 1000 مقاتل نظير 10 ملايين دولار، والسماح لفاغنر بالتنقيب عن الذهب، ومع مغادرة القوات الفرنسية والأوروبية حلت محلها قوات فاغنر، وعدد من المدربين الروس، وتلقت مالي مساعدات عسكرية روسية تنوعت بين رادارات مراقبة حديثة وطائرات هليكوبتر وأسلحة أخرى، كان آخرها في أغسطس/آب الماضي إذ استلمت مالي 6 طائرات حربية روسية.

5.موزمبيق 

انتشرت قوات فاغنر في سبتمبر/أيلول 2019 لمحاربة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في مقاطعة كابو ديلجادو الشمالية، مقابل الحصول على عقود للغاز الطبيعي، ولكنهم انسحبوا لاحقا بعد تكبدهم خسائر فادحة نظراً لضعف التنسيق ميدانيا مع الجيش الموزمبيقي وعدم معرفتهم بطبيعة ساحة القتال، فضلا عن تعرضهم لهجومين منفصلين أسفرا عن مقتل سبعة مرتزقة روس و20 جندياً موزمبيقيا، وتم استبدالهم بشركة عسكرية خاصة من جنوب أفريقيا.

خاتمة: حدود النفوذ الروسي في أفريقيا

  • تنعكس مجريات الحرب الروسية الأوكرانية على الدور الروسي في أفريقيا على عدة مستويات، على رأسها تراجع القدرة على تقديم صادرات السلاح بسبب العقوبات المفروضة على الصناعات الدفاعية الروسية، التي انخفضت صادراتها بنسبة تتجاوز 30٪ بين الفترتين 2013-2017 و2018-2022. وقد ينتج عن استخدام روسيا لأسلحة إيرانية في الحرب تشكك قادة أفارقة مستقبل الاعتماد على الأسلحة الروسية وقد يلجأون إلى البحث عن بدائل أخرى.
  • وبرغم انتشارها الواسع؛ فقد فشلت فاغنر في حسم معادلة الصراع في كل الساحات الأفريقية التي شاركت فيها، وتقتصر مشاركتها على شن عمليات تكتيكية صغيرة وتقديم خدمات أمنية محدودة، لكنّها كانت كافية للحصول على امتيازات اقتصادية في ظل حالة الاضطراب والهشاشة التي تعاني بها عدة دول وحكومات أفريقية. وبينما ظهرت فاغنر كأداة فعالة في يد الإدارة الروسية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية، فإن تمرد قادتها مؤخرا على “بوتين” قد ينذر بنهاية هذا الدور، أو على الأقل تراجعه، مما سيكون له تداعيات مباشرة على نفوذ روسيا في القارة.
  • وفي ضوء الصدام بين مجموعة فاغنر والجيش الروسي (والذي جرى خلال كتابة هذا التقدير وانتهى باتفاق ما زال غامضا)، فإن أساس النفوذ الروسي في أفريقيا المستند في جزء مهم منه لانتشار فاغنر يبدو في أحسن الأحوال غير مستقر، إن لم يكن هشا؛ حيث ما زال من غير الواضح إن كان سيفضي هذا النزاع لتفكيك فاغنر أو إلى دمجها في الجيش، وإلى أي مدى سيؤثر على موثوقية المجموعة لدى أنظمة أفريقية كمزود للأمن الداخلي، مما ينذر بتراجع محتمل لدورها، ويؤثر بالتالي على نفوذ روسيا في القارة. بينما ستظل قدرة الجيش الروسي على الانتشار بشكل مباشر في أفريقيا محدودة نتيجة الاستغراق في حرب أوكرانيا، لذلك؛ يبدو مستقبل الدور العسكري الروسي في أفريقيا محل غموض كبير.