من الاقتصاد والثقافة إلى الأمن والتسليح.. نضوج النفوذ التركي في أفريقيا
مآلات - مارس 2022
تحميل الإصدار

الملخص

● صعود النفوذ التركي في أفريقيا هو جزء من سياسة خارجية واسعة مرنة تستهدف بها أنقرة القدرة على التأثير في مجريات الأحداث الإقليمية والدولية عبر الانفتاح خارجيا على الدول غير الغربية. وإذا كانت العلاقات مع أفريقيا قد بدأت من زاوية اقتصادية بالأساس، فإن تطور الدور التركي الخارجي عموما ساهم في تبني رؤية تجاه تواجد إستراتيجي مخطط له في أفريقيا.
● تركز أنقرة على تعزيز نفوذها في ثلاث مناطق حيوية في أفريقيا، وهي القرن الأفريقي، وليبيا وامتداداتها في الساحل والصحراء، وساحل غينيا، حيث تتوافر في تلك المناطق موارد طبيعية حيوية مثل الغاز والنفط فضلا عن وجود فرص استثمارية واعدة وسوق استهلاكية ضخمة مفتوحة أمام البضائع التركية.
● تزاوج تركيا في مد نفوذها بأفريقيا بين استخدام أدوات القوة الناعمة مثل الدبلوماسية النشطة وتقديم المساعدات الإنسانية والتنموية والمنح التعليمية والبرامج الثقافية والمسلسلات التلفزيونية المترجمة، وبين استخدام الأدوات الصلبة التي تشمل مبيعات الأسلحة وبرامج التدريب العسكري والأمني. فقد أصبحت تركيا الآن لاعبا في أفريقيا يؤخذ على محمل الجد في مجال العلاقات العسكرية والأمنية، لتبرز أنقرة كمزود للأمن في أفريقيا.
● في ظل تميز الأسلحة التركية بالجودة المرتفعة ورخص الثمن وسرعة التسليم وعدم فرض قيود متعددة على الاستخدام، نجحت دبلوماسية “الطائرات بدون طيار” في نقل العلاقات التركية الأفريقية من مربع العلاقات الاقتصادية والثقافية نحو مربع العلاقات العسكرية والأمنية لتبرز أنقرة كمزود للأمن في أفريقيا.
● إذا لم تحدث تغيرات داخلية جوهرية في المشهد التركي يتوقع أن تواصل أنقرة خطواتها لتوسيع نفوذها في أفريقيا، مع استخدام الأوراق التي بيدها في ليبيا والصومال والساحل والصحراء من أجل تعزيز مطالبها في نصيبها من ثروات شرق المتوسط، فضلا عن فتح أسواق جديدة لصادراتها، ومشاريع مربحة أمام الاستثمارات التركية.

خارطة أفكار النفوذ التركي في أفريقيا

المقدمة

  • قام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بجولة أفريقية في الفترة من 20-23 فبراير/شباط الماضي شملت جمهورية الكونغو الديمقراطية والسنغال وغينيا بيساو. وجاءت الجولة بعد أن استضافت تركيا في الفترة من 16-18 ديسمبر/كانون الأول 2021 “القمة الثالثة للشراكة التركية الأفريقية” بحضور ممثلي 50 دولة أفريقية من بينهم 16 رئيس دولة، وهو عدد يفوق عدد الرؤساء الذين حضروا منتدى التعاون الصيني الأفريقي بالسنغال في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2021. وتأتي تلك القمة عقب جولة زيارات رسمية قام بها الرئيس التركي أردوغان إلى أنغولا ونيجيريا وتوغو في أكتوبر/تشرين الأول 2021 ضمن مساعي أنقرة لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الأفريقية.
  • في ظل الاهتمام بتنمية العلاقات التركية الأفريقية زادت أنقرة عدد سفاراتها في أفريقيا من 12 سفارة في عام 2002 إلى 43 سفارة عام 2021 لتصبح رابع أكثر الدول تمثيلا في القارة السمراء بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا. وحرصت أنقرة على توظيف المساعدات الخارجية باعتبارها أداة جوهرية ضمن أدوات القوة الناعمة؛ فتوسعت أنشطة مؤسسة “تيكا” المسؤولة عن تنظيم المساعدات التركية الخارجية، حيث افتتحت 22 فرعا لها في الدول الأفريقية. فيما حصل 15 ألف طالب أفريقي خلال الفترة من 1992 إلى 2020 على منح دراسية كاملة من تركيا. وفي ظل النشاط السابق لشبكة “فتح الله غولن” في أفريقيا، فقد توصلت الحكومة التركية لاتفاقات على نقل ملكية هذه المؤسسات إلى “وقف المعارف التركي”، واستجابت 17 دولة أفريقية لهذا الطلب في مقدمتها أثيوبيا والصومال وموريتانيا وتوجو، ويدير الوقف حاليا 175 مدرسة في 26 دولة أفريقية.

أفريقيا في الإستراتيجية التركية

  • مع انهيار الاتحاد السوفياتي تخلت تركيا عن إستراتيجيتها التي تركز على الدفاع عن حدودها الوطنية عبر العمل تحت مظلة الناتو الحريص على منع تمدد موسكو نحو البحار الدافئة، خاصة وأن هذا تزامن مع سياسة خارجية تركية أكثر انفتاحا تجاه المناطق غير الأوروبية بدأت في عهد “تورغت أوزال”، لأسباب اقتصادية بالأساس. صعدت حكومة العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، ومعها طموح لممارسة دور اقتصادي وسياسي خارجي أوسع، ووجدت أنقرة مساحات فراغ جيوسياسية يمكن أن تستثمرها لتعزيز موقعها في الساحة الدولية كلاعب مستقل. وبرزت القارة الأفريقية كساحة تأثير يمكن توسيع نفوذ أنقرة فيها بشكل يساهم في فتح أسواق جديدة أمام البضائع التركية والحصول على موارد طاقة بأسعار تنافسية وتوسيع خطوط الدفاع التركية بعيدا عن أحزمة الصراعات التي تحيط بأنقرة على امتداد حدودها.
  • عمل حزب العدالة والتنمية على رسم سياسة خارجية تجاه أفريقيا بدأت بإعلان عام 2005 “عام أفريقيا”، فقد زار رئيس الوزراء آنذاك “رجب طيب أردوغان” أثيوبيا وجنوب أفريقيا والمغرب وتونس ليكون أول رئيس وزراء تركي في العهد الجمهوري يزور رسميا دولة تقع جنوب خط الاستواء. ثم انتقل التقارب التركي الأفريقي خطوة للأمام في عام 2008 بعقد أول قمة للتعاون التركي الأفريقي بحضور ممثلين من 50 دولة أفريقية، وهي القمة التي انعقدت لاحقا مرتين؛ في غانا عام 2014، وفي تركيا نهاية عام 2021.
  • بعد 17 عاما من أول زيارة قام بها أردوغان، أصبحت تركيا الآن لاعبا في أفريقيا يؤخذ على محمل الجد؛ حيث باتت أنقرة شريكا إستراتيجيا للاتحاد الأفريقي، وعضوا غير إقليمي في بنك التنمية الأفريقي. ولأن القارة تمتلك سوقا استهلاكية ضخمة تضم 1.3 مليار إنسان، فقد نمت تجارة تركيا مع أفريقيا من 3 مليارات دولار في أوائل العقد الأول من القرن الـ21 إلى 25.3 مليار دولار في عام 2020. كما بلغ حجم المشاريع التي قامت بها شركات المقاولات التركية 71.1 مليار دولار في عموم القارة الأفريقية، تشمل 19.5 مليار دولار في دول أفريقيا جنوب الصحراء. وأنشأت تركيا مجالس أعمال مشتركة مع 45 دولة أفريقية بينها 40 دولة أفريقية جنوب الصحراء.
  • تستورد أنقرة نحو 90% من احتياجاتها من النفط والغاز، وبلغت كلفة استيرادها للنفط والغاز 42 مليار دولار سنويا. وفي ظل امتلاك أفريقيا نحو 10% من الاحتياطي العالمي للبترول، سعت تركيا للحصول على الطاقة من أفريقيا بأسعار تفضيلية، وبالأخص الغاز الطبيعي الذي باتت تركيا المستهلك السابع عالميا له، بالتزامن مع سعيها لتنويع الإمدادات لتحقيق هدف تقليص الاعتماد المكثف على روسيا وإيران. ومن ثم، أصبحت الجزائر رابع أكبر مصدر للغاز إلى تركيا بمقدار 5.6 مليارات متر مكعب عام 2020 بنسبة 11.6٪ من إجمالي واردات تركيا من الغاز، تليها نيجيريا في الدول الأفريقية بنسبة نحو 4٪.
  • تطور العلاقات التجارية والثقافية مع أفريقيا مهّد الطريق لتركيا كي تبني قاعدة لنفوذ إستراتيجي في القارة. وإذا كانت العلاقات مع أفريقيا قد بدأت من زاوية اقتصادية بالأساس، فإن تطور الدور التركي الخارجي عموما ساهم في تبني رؤية تجاه وجود إستراتيجي مخطط له في أفريقيا. وكان من اللافت أن خطة الوجود العسكري خارج تركيا التي أقرها الرئيس “أردوغان” في عهد حكومة “أحمد دواد أوغلو” الأولى، شملت مشروع الوجود العسكري في قطر والعراق والصومال، وهي دلالة على رؤية متكاملة تضع أفريقيا ضمن رؤية جيوسياسية تركية واسعة.
  • بعد تعزيز الحضور التجاري الاستثماري والثقافي، أصبح الانتقال لمجالات إستراتيجية، مثل الأمن والتسليح، ممكنا، خاصة من خلال مكاتب عسكرية تركية منتشرة في القارة يبلغ عددها 37 مكتبا. وفي عام 2021، حققت صادرات الأسلحة التركية إلى أفريقيا أعلى نسبة زيادة في الصادرات العسكرية وفق المناطق، حيث زادت بنسبة 700٪من 41 مليون دولار إلى 328 مليون دولار في الـ11 شهراً الأولى.

إقرأ أيضاً:

تركيا من القوة الناعمة إلى الصارمة.. كيف غيّرت من نهج سياستها الخارجية؟

تركيا وطالبان: حسابات جيوسياسية أوسع من مطار كابول

تقرير حالة دولة: تركيا

إعادة فتح الاقتصاد التركي وسط تحديات سياسية

التحالفات التركية في أفريقيا

عملت تركيا على ترسيخ تحالفاتها في أفريقيا في 3 مناطق بشكل رئيسي تتمتع بأهمية جيوسياسية سواء بسبب إطلالها على خطوط مواصلات بحرية هامة مثل القرن الأفريقي القريب من مضيق باب المندب، أو لوجود ثروات طبيعية ضخمة وفرص استثمارية واعدة مثل ليبيا في شمال أفريقيا، وساحل غينيا في غرب القارة.

أولا: القرن الأفريقي

  • بدأ الانخراط التركي في الصومال عبر بوابة مواجهة الجفاف في عام 2011، وزار “أردوغان” مقديشو في أول زيارة خلال عقدين لرئيس أجنبي للبلاد التي مزقتها الحرب الأهلية. ثم تطورت العلاقات لتنتقل من مربع المساعدات الإنسانية إلى التعاون العسكري والأمني عبر تدريب الجيش الصومالي، وإنشاء مركز التدريب “تركسوم” (TURKSOM) في مقديشو بكلفة 50 مليون دولار (يقوم هذا المركز بتدريب 10 آلاف جندي صومالي)، وصولا إلى الجوانب الاقتصادية والإستراتيجية مع تولي الشركات التركية إدارة الموانئ البحرية والجوية الرئيسية في مقديشو، والتي توفر 80٪ من عائدات الحكومة الصومالية.
  • في عام 2018 عيّنت تركيا مبعوثا خاصا للصومال، وهي خطوة غير مسبوقة في السياسة الخارجية التركية. وتركزت مهمة هذا المبعوث على جهود المصالحة بين حكومة الصومال الاتحادية وإقليم صوماليلاند الانفصالي. وبغضّ النظر عن احتمالية تحقيق ذلك على المدى القريب، فإن الخطوة تعكس إلى أي مدى بلغ النفوذ التركي، كما يعكس اهتمام جهاز الخارجية التركية بالوضع في الصومال.
  • بجانب الصومال، حرصت أنقرة على تعزيز علاقاتها مع أثيوبيا، الدولة الثانية من حيث عدد السكان في القارة بعد نيجيريا والقوة المهيمنة المحتملة في القرن الأفريقي، بالإضافة إلى رمزية أديس أبابا السياسية باعتبارها حاضنة مقر الاتحاد الأفريقي. فقد استثمرت أنقرة في أثيوبيا 2.5 مليار دولار من بين 6 مليارات استثمرتها الشركات التركية في أفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما جعل تركيا تشغل المركز الثالث بعد الصين والسعودية ضمن أكبر المستثمرين في أثيوبيا.
  • ومع تقدم مقاتلي تغراي نحو العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، حرصت أنقرة على دعم حليفها الأثيوبي، فوقعت في أغسطس/آب 2021 اتفاق تعاون عسكري مع أثيوبيا أتبعته ببيع عدد يتراوح من 6 إلى 10 طائرات من طراز بيرقدار (TB2) للجيش الأثيوبي، مما ساعده على وقف تقدم مقاتلي تغراي ودفعهم للتقهقر إلى معاقلهم. وكان من اللافت حرص رئيس الوزاراء “آبي أحمد” على المشاركة بنفسه في “القمة الثالثة للشراكة التركية الأفريقية” في إسطنبول، في الوقت الذي لم تحسم فيه المعارك مع مقاتلي تغراي بعد، وهي دلالة على أهمية تركيا كحليف من وجهة نظر أديس أبابا.
  • لم تكتف أنقرة بالجوانب الاقتصادية والإستراتيجية، بل حرصت على تعزيز صورتها الذهنية لدى الأثيوبيين، فاختارت أديس أبابا مقرا رئيسيا لمكتب وكالة الأناضول في أفريقيا، ومن هناك تُقدم الأناضول برامج تدريبية متنوعة للصحفيين الأثيوبيين والأفارقة مما يساهم في تقديم تغطيات إعلامية غير مناهضة للأنشطة التركية. وكذلك دخلت الدراما التركية على خط التأثير مع ترجمة بعض المسلسلات التركية إلى اللغة الأمهرية.
  • وغير بعيد عن الجغرافيا السياسية للقرن الأفريقي، يأتي السودان، وهو مثل الصومال له تاريخ من النفوذ العثماني. في أوائل العام 2017، ظهر السودان بصورة لا تقبل الشك على خريطة تحركات “أردوغان” الإستراتيجية في أفريقيا. فبعد أن طور علاقة وطيدة مع الرئيس السوداني -آنذاك – “عمر البشير”، وخلال زيارة أردوغان الرسمية إلى السودان، زار الرئيسان جزيرة سواكن على ساحل البحر الأحمر، وهي مركز تجارة عثماني تاريخي متوقفة نشاطاته منذ زمن بعيد بعد أن كانت نقطة انطلاق للمسلمين الأفريقيين في سفرهم إلى مكّة. ووقع الرئيسان اتفاقيات بلغت قيمتها 650 مليون دولار، تشمل إعادة تأهيل هذه الجزيرة وإحياء أهمّيتها الثقافية، بالإضافة إلى خطط لزيادة التعاون العسكري وتشييد مرسى للسفن الحربية والمدنية في سواكن.

ثانيا: ليبيا والساحل والصحراء

  • بينما كانت مصر وحلفاؤها يعملون على عزل تركيا في شرق المتوسط، قلبت أنقرة التوازنات بالموافقة على التدخل عسكريا في ليبيا دعما لحكومة الوفاق المعترف بها دوليا. ومثل طلب حكومة الوفاق الليبية من أنقرة مساعدتها في التصدي لهجوم قوات “خليفة حفتر” على طرابلس فرصة ذهبية وظفتها أنقرة في عقد اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا مما عزز موقعها كلاعب حاضر في ملف شرق البحر المتوسط. كما أثبتت قدرتها على دعم حلفائها عسكريا في مواجهة المخاطر، وأمنت لنفسها وجودا عسكريا في شال أفريقيا في قاعدة الوطية الجوية (المعروفة أيضا باسم قاعدة عقبة بن نافع)، وهي أهم قاعدة إستراتيجية غربي البلاد، وتبعد فقط 27 كلم عن الحدود التونسية، وقد تأسست عام 1942 وتسع لنحو 7 آلاف جندي.
  • من خلال الوجود في ليبيا، كما في دعم حكومة أثيوبيا، تم تجربة أسلحة تركية جديدة في ساحة بعيدة، وأثبتت الطائرات المسيرة التركية براعة في عمليات عسكرية تكتيكية، وتزامن ذلك أيضا مع معارك “ناغورني قره باغ” في أذربيجان، مما جذب أعين العديد من الدول الراغبة في استيراد تلك الأسلحة مثل تونس التي اشترت في عام 2020 أسلحة تركية بمقدار 150 مليون دولار شملت طائرات من دون طيار، والمغرب الذي اشترى 12 طائرة بيرقدار TB2 في عام 2021، وتتفاوض نيجيريا على شراء معدات عسكرية تركية بهدف استخدامها في التصدي للجماعات المسلحة مثل بوكو حرام.
  • وبالإضافة لكون هذا التمركز يخدم وجود تركيا الإستراتيجي في المتوسط، فقد أتاح لها أيضا الانفتاح على منطقة الساحل والصحراء. وتأتي منطقة الساحل والصحراء ضمن مناطق الاهتمام التركي، ففي عام 2018 ساهمت أنقرة بخمسة ملايين دولار لتمويل القوة العسكرية التي شكلتها مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد لمكافحة التنظيمات المسلحة الناشطة في منطقة الساحل. وساهم الوجود التركي في ليبيا في تعزيز علاقات أنقرة مع النيجر عبر عقد اتفاق تعاون أمني بين الطرفين في عام 2020.
  • توتر علاقات مالي مع فرنسا الذي وصل حد طرد السفير الفرنسي، وإعادة النظر في اتفاقات التعاون الدفاعي بين البلدين وصولا إلى إعلان فرنسا إنهاء وجودها العسكري هناك، يتيح فرصة لتوسيع النفوذ التركي في منطقة الساحل والصحراء على حساب النفوذ الفرنسي، وبالأخص في ظل وجود أرضية دينية مشتركة تجمع سكان المنطقة مع تركيا، وخلو العلاقة بين الطرفين من أي موروثات تاريخية استعمارية مثل تلك الموجودة مع باريس.

ثالثا: خليج غينيا

  • تعمل تركيا على تعزيز وجودها في العديد من الدول المطلة على خليج غينيا بغرب القارة الأفريقية. ويلاحظ أنه خلال الأشهر الأخيرة قام الرئيس التركي بجولتين في المنطقة لزيارة عدة دول بها. ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، زار أردوغان نيجيريا التي تعد قوة إقليمية في القارة وصاحبة أكبر اقتصاد أفريقي، وتوغو التي تمثل واحدة من أصغر دول القارة. وبالإضافة إلى العلاقات التجارية الثنائية التي بلغ حجمها 2 مليار دولار عام 2020، فقد تركزت مباحثات “أردوغان” في نيجيريا على التعاون الأمني والعسكري، ليوقع الطرفان اتفاقية صناعية دفاعية من شأنها أن تفتح الباب لتصدير الأسلحة التركية، وخاصة الطائرات بدون طيار إلى نيجيريا. وفي “القمة الثالثة للشراكة التركية الأفريقية” بعد نحو شهرين من هذه الزيارة، اتفق الجانبان التركي والنيجيري على زيارة لوفد دفاعي تركي إلى العاصمة أبوجا في يناير/كانون الثاني الماضي، وأشار بيان صادر عن المساعد الإعلامي للرئيس النيجيري محمد بخاري أن التكنولوجيا التركية “ستسرّع بالتأكيد العملية والجهود المبذولة لتخليص البلاد من جيوب الإرهابيين”.
  • أما غانا، ثاني أكبر اقتصاد في غرب أفريقيا بعد نيجيريا، فقد أصبحت حاليا سادس أهم بلد مستورد للسلع التركية. وتعمل أنقرة على تأسيس مركز لوجستي في غانا يختص بتوزيع المنتجات التركية في غرب أفريقيا، وذلك بالتوازي مع بناء وقف الشؤون الدينية التركية لمسجد “أمة” الضخم في العاصمة أكرا، والذي يضم مدرسة للأئمة والخطباء، ومركزا صحيا.
  • طوّر “أردوغان” كذلك علاقات ودية مع قادة المنطقة، مثل رئيس السينغال “ماكي سال” الذي وصف “أردوغان” خلال جولته في غرب أفريقيا في فبراير/شباط الماضي بـ”صديقي وصديق الأفارقة”. وكان من اللافت تصريح رئيس الكونغو الديمقراطية “فيليكس تشيسكيدي” خلال زيارة “أردوغان” لبلاده في مستهل هذه الجولة، أن تركيا ستقدّم الدعم لبلاده في مكافحة الإرهاب، وستشارك تجاربها وخبراتها في هذا المجال معها، مشيرا إلى أن “الأولوية في التعاون بين البلدين هي للأمن”. وهي دلالة لافتة على تحول علاقات تركيا في القارة من مجال الاقتصاد والتجارة إلى مجالات أكثر إستراتيجية.
  • ويلاحظ نفس الأمر في غينيا، حيث لا تعمل تركيا على الاستثمار في مجالات الطاقة وإدارة الموانئ فحسب، لكنها أيضا ساهمت في بناء قوة تدخل سريع غينية تختص بمكافحة الإرهاب، فضلا عن تقديم تركيا دورات تدريبة لعناصر الشرطة في عدة دول بغرب أفريقيا.
الحضور التركي في أفريقيا - وكالة الأناضول
الحضور التركي في أفريقيا – وكالة الأناضول

مآلات التمدد التركي في أفريقيا والتحديات المنتظرة

  • صعود النفوذ التركي في أفريقيا جزء من سياسة خارجية واسعة مرنة تستهدف بها أنقرة القدرة على التأثير في مجريات الأحداث الإقليمية والدولية عبر الانفتاح خارجيا على الدول غير الغربية، في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا. وهو دور نجحت أنقرة في تحقيق جزء مهم فيه عبر بوابة الاقتصاد والتنمية، وتقديم مساعدات واستثمارات غير مشروطة في مضاعفة حجم التجارة مع أفريقيا لخمسة أضعاف خلال 20 سنة، وتطوير قنوات تأثير ناعمة متنوعة في مجالات التعليم والصحة والمشتركات الدينية.
  • يتوقع أن تواصل تركيا خطواتها لفتح أسواق جديدة لصادراتها، ولتوسيع نفوذها الجيوسياسي في أفريقيا، خاصة بعد أن حققت تقدما في القرن الأفريقي وخاصة الصومال وأثيوبيا وليبيا والساحل والصحراء.
  • كما يرجح أن يشكل الأمن والتعاون العسكري نقطة إضافية في تصاعد النفوذ التركي، خاصة في ظل تميز الأسلحة التركية بالجودة المرتفعة ورخص الثمن وسرعة التسليم وعدم فرض قيود على الاستخدام، إذ لعبت دبلوماسية “الطائرات بدون طيار” دورا حاسما في نقل العلاقات التركية الأفريقية من مربع العلاقات الاقتصادية والثقافية نحو مربع العلاقات العسكرية والأمنية، لتبرز أنقرة كمزود للأمن في أفريقيا.

ومع ذلك سيواجه التمدد التركي في أفريقيا تحديات على المستوى الداخلي والخارج، سيكون على عاتق صانع القرار تجاوزها:

  • فعلى المستوى الداخلي سيلعب الاستقرار السياسي والاقتصادي في تركيا دورا محوريا في قدرة أنقرة على مواصلة تعزيز نفوذها في أفريقيا. فمن الناحية السياسية، ليس من الواضح كيف ستنظر أي حكومة أخرى من خارج حزب العدالة والتنمية للعلاقات مع أفريقيا وأولويتها، فربما تتبنى أولويات سياسية أخرى، أو تقلع عن طموحات العدالة والتنمية الواسعة تجاه استعادة النفوذ التركي في الشرق الأوسط وأفريقيا. ومن ناحية أخرى، سيؤثر التقلب الاقتصادي التركي على مستوى المساعدات التنموية والإنسانية التي تقدمها للدول الأفريقية.
  • على المستوى الخارجي، يتعارض التمدد التركي في أفريقيا مع مصالح قوى دولية تحرص على حماية نفوذها بالقارة. فقد بلغ حجم تجارة القارة الأفريقية في عام 2021 مع الاتحاد الأوروبي 255 مليار دولار، و254 مليار دولار مع الصين، وتجاوز 64 مليار دولار مع الولايات المتحدة. وتنتشر في أفريقيا قواعد عسكرية أمريكية وفرنسية وصينية، ومؤخرا دخلت قوات روسية على الخط.
  • فرنسا على وجه التحديد هي الدولة الغربية الأكثر انزعاجا من التمدد التركي في أماكن تعتبرها باريس مناطق نفوذ تاريخية خاصة بها منذ حقبة الاستعمار، وهو ما يؤججه حديث الرئيس التركي المتكرر خلال لقاءاته مع الرؤساء الأفارقة عن الماضي الاستعماري للدول الغربية في أفريقيا، وما نتج عنه من فقر ونهب للموارد، مع تبني خطاب بديل يصور تركيا على أنها تنطلق من دوافع المساواة والعدالة، وتسعى لتقاسم الأرباح مع أفريقيا عبر تقديم مساعدات واستثمارات غير مشروطة سياسيا، مع تجنب التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، والدعوة لاعتماد حلول أفريقية لمشاكل القارة.
  • على المستوى الأفريقي تُعد مصر الدولة الأكثر انزعاجا من التمدد التركي. حيث ينظر النظام المصري للرئيس التركي وحزبه باعتبارهم حلفاء لجماعة الإخوان المسلمين في ظل رفضهم للانقلاب العسكري بمصر عام 2013 وإيواء تركيا لعدد من المعارضين المصريين، فضلا عن التدخل في ليبيا ضد قوات حفتر الحليف للقاهرة، ودعم أنقرة لأديس أبابا ضد مقاتلي تغراي. وتبذل مصر جهودا لقلب الطاولة سياسيا في ليبيا ضد تركيا بهدف إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية واتفاقية التعاون العسكري ودفع القوات التركية لمغادرة ليبيا. وأخيرا عملت القاهرة والسعودية والإمارات على تقويض النفوذ التركي بالسودان عبر حث نظام “البرهان” على عدم تنفيذ مشروع تطوير تركيا لجزيرة سواكن على البحر الأحمر، كما تطمح مصر إلى تنسيق المواقف مع تونس والجزائر فيما يخص رفض الوجود التركي في ليبيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوجود التركي في الصومال محل قلق من مصر والإمارات اللتين حاولتا في أكثر من مناسبة تقليص اعتماد حكومة الصومال على تركيا خاصة في عمليات تدريب الأجهزة الأمنية وقوات الجيش.

المصادر

  • أحمد داوود أوغلو، العمق الإستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم، 2010.
  • إسماعيل دمير، صناعة الدفاع التركية: التاريخ ومسوغات التحول والصعود، رؤية تركية، السنة 9 العدد 4،  16 نوفمبر 2020.
  • سردار تشام، مؤسسة تيكا ومرحلة الانفتاح على أفريقيا، رؤية تركية، السنة 4 العدد 4، 1 ديسمبر 2015.

● TURKEY & AFRICA: Doubling down on economic and military partnership, Pangea-Risk, 10 November 2021.
● Turkey pushes into Africa with aid, trade and a dose of drama; Financial Times, 19 January 2021.
● Turkey expands footprint in Africa amid competition with regional rivals, BBC Monitoring Europe, 16 October 2020.
● Serhat Orakçi, The Rise of Turkey in Africa, Al Jazeera Centre for Studies, 9 January 2022.