الخبر
قرر رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تعيين اللواء السابق في الجيش، ديفيد زيني، رئيسًا لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك، أو الشين بيت) وذلك خلفًا لـرونين بار، الذي أعلن في نيسان/ أبريل الماضي، أنه سيتنحى عن منصبه في 15 حزيران/ يونيو. وجاء تعيين “زيني” رغم منع المستشارة القضائية للحكومة، غالي بها راف ميارا، من تعيين رئيس جديد للجهاز، مما دفعها لاعتبار القرار “يتعارض مع التوجيهات القانونية“.

التحليل: تعيين رئيس الشاباك يضع نتنياهو في مواجهة الدولة
تعود جذور الخلاف إلى إعفاء رونين بار، رئيس الشاباك السابق، من منصبه بحجة الفشل في إحباط هجمات 7 أكتوبر. وكان بار رأس الحربة في التحقيقات التي حمّلت مسؤولية الإخفاق الاستخباري لعدة مستويات، بما فيها القيادة السياسية، أي نتنياهو. ومع رفض بار التستر على الحكومة بات عبئًا على نتنياهو الذي يسعى جاهدًا لتثبيت رواية تحمّل الجيش والشاباك مسؤولية التقصير.
أثار اختيار زيني غضب كوادر الشاباك ورؤساءه السابقين؛ بوصفه أكثر قابلية للتنسيق مع نتنياهو، خاصة أنه آتٍ من خلفية عسكرية ولم ينخرط في العمل داخل الشاباك نفسه. بالإضافة إلى ذلك؛ فالجنرال زيني من أنصار الصهيونية الدينية، ويقيم بمستوطنة في الجولان السوري المحتل، ويعرف بكونه أكثر تشددًا في التعامل مع الملف الفلسطيني، مما جعل نتنياهو يراه مرشحًا مثاليًا لتطويع الشاباك لاعتبارات الحكم، ولطمأنة حلفائه من التيارات الدينية المتطرفة، خاصة أن الشاباك – في وعي هؤلاء – يُنظر إليه كقلعة للعلمانيين والنخب الأمنية المعادية لأجندة الحكومة.
وهكذا؛ يعكس تعيين زيني تحوّلًا في فلسفة القيادة الأمنية: من منطق “الحياد المهني” إلى منطق “الولاء السياسي”، وهو ما يعتبره معارضو نتنياهو تهديدًا لاستقلالية أحد أعمدة الدولة. فمنذ تأسيسه عام 1949، اعتُبر جهاز الشاباك صمام أمان داخلي للدولة، وجزءًا من “نخبة الحُكم غير المنتخبة” التي تشكل مع الجيش والموساد والقضاء أعمدة الدولة العميقة. وترتكز عقيدته على الحرفية، والبعد عن الانخراط في الصراع السياسي. لكن تعيين زيني يكسر هذا التقليد؛ إذ ترى النخبة الداخلية في الشاباك أن اختياره يفتح الباب أمام تسييس قرارات الجهاز، لا سيما المتعلقة بتقييم المخاطر الداخلية، مثل تطرف المستوطنين، أو التهديدات القادمة من داخل المجتمع اليهودي المتدين، وهي ملفات يعالجها الجهاز بحساسية ووفق معايير مهنية صارمة.
خلف هذه السجالات الأمنية، يظهر أيضا أن نتنياهو قرر أن يمضي قدمًا في تحدي المؤسسة القضائية علانية، مما يكشف أن التعيين ليس قرارًا إداريًا، بل إعلان إرادة سياسية. ومنذ بداية ولاية نتنياهو أواخر 2022، دخلت إسرائيل أزمة دستورية بعد محاولاته تقويض استقلالية القضاء عبر مشروع “الإصلاح القضائي”، الذي واجه معارضة شعبية وأدى إلى شلل في الجيش، وانقسامات في المجتمع.
في هذا السياق، أصبحت الأجهزة الأمنية من آخر حصون الدولة العميقة في وجه تغول السلطة التنفيذية. ولذلك، عمل نتنياهو وحلفاؤه المتطرفون على إخضاع هذه الأجهزة تدريجيًا: الجيش، ثم الشرطة، والشاباك. لذا؛ فإن تعيين زيني ليس إلا حلقة في مشروع أكبر لإعادة تعريف من يسيطر على أجهزة الدولة. وتبعًا لذلك، تصبح معركة الشاباك ضمن معركة أوسع على هوية الدولة.
إن تعيين زيني يمثل رفضا للنموذج العلماني-الأمني الذي تأسست عليه “إسرائيل”، وهنا تكمن أهمية اللحظة؛ لأن إعادة تشكيل القيادة الأمنية على أسس سياسية تُفقد الدولة قدرتها على إدارة التعددية الداخلية، وتحوّل الخلافات إلى نزاعات وجودية. إذ تكشف الأزمة عن انهيار الإجماع داخل “إسرائيل” حول هوية “الدولة”. فبينما ترى النخبة العلمانية أن الدولة تمثلها مؤسساتها المحترفة مثل الجيش، القضاء، الأمن، ترى قواعد اليمين الديني المتطرف أن الدولة يجب أن تمثل “إرادة الأغلبية المنتخبة”، ولو اقتضى الأمر تفكيك البنى غير المنتخبة. الجنرال زيني إذاً ليس هو المشكلة في ذاته، بل هو تجلٍ لانقلاب في فلسفة الحكم. فبينما يرى البعض أن المؤسسة الأمنية يجب أن تتجدد بوجوه أكثر انسجامًا مع الإرادة السياسية، يرى آخرون أن حيادها هو شرط بقاء النظام.
في ضوء ذلك؛ فإن الارتدادات المستقبلية لتعيين زيني تتشكل على النحو التالي:
- أولا: تآكل الثقة داخل الجهاز: حتى لو لم تحدث استقالات جماعية، فإن فقدان الثقة بقيادة الجهاز سيؤدي إلى شلل بيروقراطي، وإبطاء اتخاذ القرار، وتضارب في الرؤى الاستخبارية.
- ثانيا: مواجهة قانونية مفتوحة: فمن المتوقع أن تستمر المحكمة العليا والمستشارة القانونية في الاعتراض على التعيين، مما يضع “إسرائيل” أمام أزمة دستورية مفتوحة بين الشرعية القانونية والشرعية السياسية.
- ثالثا: التأثير على سياسة الاحتلال في غزة والضفة: سيتماهى زيني مع أولويات نتنياهو في غزة والتي تتمثل في هزيمة حماس عسكريا ومنع عودتها ضمن أي هيكل حكم في غزة والسيطرة الأمنية على القطاع، وبالتالي رفض وقف الحرب مقابل تحرير الأسرى. وسيدفع زيني نحو تشديد القبضة الأمنية على الضفة الغربية، بالتوازي مع منح المستوطنين حرية أكبر في توسيع نشاطهم، ما قد يعجّل بانفجار جديد في الأراضي المحتلة.