في الوقت الذي تتعثر فيه المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، وتزداد هشاشة الثقة بين ضفتي الأطلسي، تستيقظ أوروبا على واقع جديد: لا ضمانات بالحماية الأمريكية، ولا بدائل سوى الاعتماد على الذات. فالتطورات المتسارعة في ساحة المعركة الأوكرانية، وتراجع الدعم الأميركي، دفعا الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في بنيته الدفاعية، وبداية ما قد يُعرف مستقبلاً بمرحلة “إعادة التسليح الأوروبي“.
وبدأ التحول في مارس 2025، حين علّقت الولايات المتحدة مؤقتًا مساعداتها العسكرية لأوكرانيا، ما أدى إلى تراجع كبير في العمليات الميدانية لكييف. لم يدم انقطاع المعلومات الاستخباراتية أكثر من أسبوع، لكن النتائج كانت ثقيلة؛ إذ أوشكت القوات الروسية على تطويق آلاف الجنود الأوكرانيين الذين دخلوا منطقة كورسك في أغسطس، فيما اعتُبرت أكبر خسارة ميدانية لأوكرانيا منذ اندلاع الحرب. وبينما عاد ترامب لاحقًا ليُلغي التعليق، كان الضرر السياسي قد وقع. إذ تزعزعت الوحدة الغربية، وبات الاتحاد الأوروبي ينظر إلى الواقع الجديد بعين القلق والاضطرار: لا يمكن الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة.
إعادة التفكير في التسليح الأوروبي
ضمن هذا السياق، أعلنت البرتغال تراجعها عن خطة لشراء مقاتلات أمريكية من طراز إف-35، وبدأت البحث عن بدائل أوروبية. وتشير التقديرات إلى أن السويد ودولًا أخرى قد تحذو حذوها، خاصة مع بطء تسليمات الطائرات الأمريكية، وتصاعد التوترات السياسية عبر الأطلسي. الرسالة واضحة: أوروبا تريد بناء قاعدة صناعية دفاعية تُقلل اعتمادها على واشنطن، لا سيما في أنظمة التسليح المتقدمة.
في 4 مارس، أطلق الاتحاد الأوروبي برنامجًا شاملاً تحت عنوان “إعادة التسليح الأوروبي”، وهو مشروع غير مسبوق من حيث الحجم والطموح:
أبرز ملامح برنامج إعادة التسليح الأوروبي:
- 800 مليار يورو مخصصة لتعبئة الصناعة الدفاعية.
- 650 مليار يورو ستأتي في صورة قروض من بنك الاستثمار الأوروبي.
- 3.5% من الناتج المحلي للدول الأعضاء سيكون هو هدف الإنفاق الدفاعي الجديد.
- 150 مليار يورو لإنشاء صندوق اقتراض دفاعي جماعي.
الهدف ليس فقط زيادة الإنفاق، بل تخفيف القيود على الديون، والسماح للدول الأعضاء بتوسيع ميزانياتها العسكرية بلا عراقيل بيروقراطية. وبدأت النتائج المالية تظهر سريعًا. فقد تحوّل قطاع التسليح الأوروبي إلى استثمار مزدهر لأول مرة منذ أكثر من 30 عامًا، وارتفعت القيمة السوقية لعمالقة الصناعة العسكرية بنسبة تجاوزت 40% في بعض الحالات.
الشركات المستفيدة من إعادة التسليح الأوروبي:
- راينميتال (ألمانيا)
- بي أيه إي سيستمز (بريطانيا)
- نامو (فنلندا والنرويج)
- كي إن دي إس (تحالف نكستر الفرنسية وكراوس مافي فيجمان الألمانية)
- ليوناردو (إيطاليا)
- ساب (السويد)

معضلة استقلال أوروبا عن أمريكا
رغم الطموحات الكبيرة، تدرك العواصم الأوروبية صعوبة الاستغناء عن بعض الأسلحة الأمريكية، مثل بطاريات الدفاع الجوي “باتريوت”، والتي تُمثل العمود الفقري للردع الجوي في أوروبا.
بدائل محتملة للأسلحة الأمريكة:
- صواريخ سامب-تي: منظومة أوروبية من إنتاج مشروع يوروسام (MBDA + تاليس).
- برامج استخباراتية جديدة: لتعويض نقص طائرات استخبارات الإشارة، والتي لا تملك منها أوروبا سوى عدد محدود:
الدولة | عدد طائرات استخبارات الإشارة |
فنلندا، فرنسا، إيطاليا | 1 طائرة لكل منها |
السويد | 2 طائرتان |
بريطانيا، تركيا | 3 طائرات لكل دولة |
وتعمل شركة هنسولدت الألمانية على تطوير طائرات استخبارات باسم “بيغاسوس”، فيما تملك شركة ساب السويدية خبرات في أنظمة الإنذار المبكر، لكنها تفتقر للمنصات الجوية.
الأقمار الصناعية… فجوة قاتلة
في حرب أوكرانيا، لعبت شركة ستارلينك الأمريكية دورًا حيويًا في نقل بيانات المعركة. وحتى اللحظة، لا تمتلك أوروبا بديلاً فعّالاً على نفس المستوى، رغم محاولات شركة يوتلسات الفرنسية (المالكة لـ OneWeb) لملء هذا الفراغ. وتُعد المقاتلات والطائرات المُسيّرة من أكبر التحديات أمام مشروع الاستقلال الدفاعي الأوروبي. وفي مجال الطائرات المُسيّرة تم توقيع مذكرة تفاهم بين ليوناردو الإيطالية وبايكار التركية لتطوير تقنيات غير مأهولة. ويُقدَّر سوق الطائرات المُسيّرة الأوروبي بـ 100 مليار دولار. أما في مجال المقاتلات، فهناك قلق من أن طائرات F-35 الأمريكية يمكن تعطيلها عن بُعد، ما يُثير جدلاً حول السيادة. وتخطط داسو الفرنسية لإنتاج 50–60 طائرة رافال سنويًا بحلول 2026.
برامج أوروبية دفاعية بديلة قيد التطوير مثل:
- يوروفايتر (بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا)
- غربين (السويد)
- قآن (مقاتلة تركية من الجيل الخامس)
- نظام القتال الجوي المستقبلي (FCAS) – للجيل السادس (لن يدخل الخدمة قبل عقود)
ونظرًا للقيود الزمنية، بدأ الاتحاد الأوروبي بالنظر إلى شركاء خارجيين مثل تركيا وكوريا الجنوبية. أما بولندا مثلا، فقد وقّعت منذ 2022 عقودًا بقيمة 16 مليار دولار مع كوريا الجنوبية. وتتضمن: دبابات، هاوتزر، طائرات، وصواريخ متعددة القاذفات. إلا أن هذا الخيار لا يحظى بإجماع سياسي، فبينما يدعو المستشار الألماني أولاف شولتز لفتح التعاون مع دول غير أعضاء في الاتحاد (مثل النرويج، سويسرا، بريطانيا، تركيا)، يُصر الرئيس الفرنسي ماكرون على تقييد التمويل داخل حدود السوق الأوروبية فقط.
لكن هل تستطيع أوروبا حقاً أن تنهض عسكرياً بشكل مستقل؟ نظرياً، تبدو الإجابة بالإيجاب، فهي تتفوق على روسيا في معظم المؤشرات الرئيسية؛ إذ يبلغ ناتج أوروبا المحلي الإجمالي أكثر من 19 تريليون دولار، مقارنةً باقتصاد روسي لا يتجاوز تريليوني دولار، فيما يصل عدد سكان أوروبا إلى 449 مليون نسمة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان روسيا. كما أن إنفاق أوروبا الدفاعي بلغ 457 مليار دولار في عام 2024، مقابل 146 ملياراً فقط أنفقتها موسكو على الصناعات الدفاعية.
ورغم تفوقها العددي والتقني، إلا أن أوروبا تواجه فجوة كبيرة في جاهزيتها العملياتية، بعد عقود من الاعتماد على الولايات المتحدة في مجالات النقل العسكري، والتزوُّد بالوقود جوًا، واللوجستيات، والقدرات الاستخباراتية. فقدت الجيوش الأوروبية شيئاً من مرونتها وفاعليتها، ولم تعد قادرة على العمل المشترك بالكفاءة المطلوبة. وللخروج من هذا المأزق، تشير دراسة حديثة لمركزي بروغيل وكيل إلى أن أوروبا بحاجة لزيادة إنفاقها الدفاعي السنوي بنحو 261 مليار دولار فوق ما تنفقه حالياً، ليصل المجموع إلى نحو 727 مليار دولار سنوياً. هذا الرقم الهائل يطرح سؤالاً حساساً: من أين يمكن تأمينه؟
الحل يكمن في خيارات مؤلمة، لا سيما في اقتصادات تعتمد بشكل كبير على دولة الرفاه.
- فإما أن ترفع الدول الأوروبية الضرائب (وهو خيار مكلف سياسياً وشعبياً)
- أو أن تبدأ بخفض تدريجي في الإنفاق الاجتماعي.
وقد نبهت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل إلى هذه المفارقة منذ عام 2012، حين قالت إن أوروبا تمثل 7% فقط من سكان العالم، وربع ناتجه الاقتصادي، لكنها تتحمل نصف الإنفاق الاجتماعي على الكوكب.
ربما تغيّرت الأرقام نسبياً اليوم، لكن الحقيقة تبقى ثابتة: لا يمكن لأوروبا أن تبني قلاعاً منيعة وهي مثقلة بأعباء داخلية. وإذا أرادت خوض طريق الاكتفاء الدفاعي، فعليها أن تخفف حمولتها أولاً.لقد حان وقت القرار، فإما أن تستمر أوروبا في الاتكال، أو تُعيد صياغة ذاتها كقوة عسكرية مستقلة. المسار واضح، لكنه يتطلب شجاعة استراتيجية وميزانيات ضخمة وإرادة سياسية لا تتزعزع.