الحدث
شددت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في ديسمبر/كانون الأول 2025 على تفعيل مبدأ مونرو وتعزيز الهيمنة الأمريكية على نصف الكرة الغربي بوصفه مجالًا حيويًا مباشرًا للأمن القومي. ضمن هذا الإطار، تبرز فنزويلا بوصفها عقدة استراتيجية تتقاطع عندها ملفات الطاقة والهجرة والمخدرات والتنافس مع الصين وروسيا، ما يفسر إدراجها في صلب إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية لإدارة دونالد ترامب في ولايته الثانية. وتعكس حدة الإجراءات الأمريكية المعلنة، من فرض حصار شامل على صادرات النفط الفنزويلية وإغلاق المجال الجوي، والتلويح بتصنيف النظام الفنزويلي كمنظمة إرهابية أجنبية، انتقال واشنطن من سياسة العقوبات والاحتواء إلى دبلوماسية قسرية تستهدف تغيير النظام. ويتزامن هذا التحول مع حشد عسكري نوعي في الكاريبي، شمل انتشارًا بحريًا وجويًا واسعًا تقوده حاملة الطائرات “جيرالد فورد”، إلى جانب إبرام اتفاقية انتشار قوات مع باراغواي، والسماح للطائرات العسكرية الأمريكية باستخدام مطارات ترينيداد وتوباغو. كما أعلن البنتاجون إطلاق عملية “الرمح الجنوبي” في نصف الكرة الغربي، في خطوة تمنح مصداقية متزايدة لتهديدات ترامب بقرب انتقال التصعيد من البحر إلى البر، بعد سلسلة ضربات استهدفت قوارب وسفن في الكاريبي منذ الثاني من سبتمبر/أيلول 2025، بذريعة ارتباطها بتهريب المخدرات وعصابة «ترين دي أراغوا» وبالنظام الفنزويلي.
التحليل: ترامب يسعى لتغيير النظام في فنزويلا وزعماء أمريكا اللاتينية يترقبون
● يُقدَّم التصعيد الأمريكي رسميًا في إطار الحرب على المخدرات، غير أن اتساع الإجراءات العقابية وتكثيف الحشد العسكري يشيران إلى أن المقاربة المتبعة تتجاوز منطق مكافحة التهريب إلى العمل على تغيير النظام الفنزويلي، عبر استهداف الشبكات الاقتصادية والأمنية المرتبطة به، وإيصال رسائل مباشرة إلى المؤسسة العسكرية بأن استمرار الولاء للرئيس نيكولاس مادورو سيترتب عليه كلفة شخصية ومؤسسية.
● يطرح التصعيد الأمريكي نموذجًا موسعًا لإعادة تعريف التهديدات. فالهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات يجري تقديمهما باعتبارهما مبررًا لاستخدام القوة العسكرية خارج الحدود، وهو تطور يحمل دلالات مقلقة، إذ يفتح الباب أمام تسييل أزمات اجتماعية وأمنية داخلية وتحويلها إلى ذرائع لتدخلات خارجية لتغيير الأنظمة.
● ورغم حدّة الخطاب وكثافة الحشد العسكري، لا توحي المعطيات المتاحة بأن واشنطن تتجه نحو حرب برية شاملة أو احتلال طويل الأمد لفنزويلا؛ إذ إن حجم القوات المنتشرة ضمن نطاق القيادة الجنوبية، والمقدَّر بنحو 15 ألف جندي، لا يوفّر متطلبات غزو بري واسع في بلد تبلغ مساحته نحو 912 ألف كيلومتر مربع ويقطنه قرابة 31 مليون نسمة. فضلًا عن أن تجارب تغيير الأنظمة التي قادتها الولايات المتحدة خلال العقود الماضية أظهرت كلفًا استراتيجية وسياسية باهظة.
● في ضوء ذلك؛ ينصب الرهان الأمريكي على مقاربة ضغط متدرّجة ومتعددة المستويات، تبدأ بالتهديد العلني وتوسيع أدوات الردع، ثم الانتقال إلى ضربات محدودة أو استهداف قيادات سياسية بعينها، بهدف إحداث تصدعات داخل بنية النظام تدفع نحو انتقال سياسي يتوافق مع المصالح الأمريكية دون الانخراط في كلفة احتلال مباشر.
● تُظهر مواقف العديد من دول أمريكا اللاتينية انزعاجا واضحًا إزاء النهج الأمريكي، إذ ترى دول وازنة مثل المكسيك والبرازيل وكولومبيا أن استهداف فنزويلا يبعث برسالة تهديد لبقية دول المنطقة، وبالأخص في ظل تهديد ترامب للرئيس الكولومبي بأنه قد يكون الهدف التالي، فضلا عن تهديدات ترامب باستهداف عصابات تهريب المخدرات في المكسيك وكولومبيا بضربات جوية، وتصنيف عصابة “كلان ديل غولفو” في كولومبيا كمنظمة إرهابية أجنبية ضمن نفس تسلسل التعامل مع فنزويلا، وصولا إلى الإغراء باستهداف كوبا للقضاء على النظام المناهض لواشنطن. وتلك التخوفات قد تدفع العديد من دول أمريكا اللاتينية إلى البحث عن شراكات بديلة مع دول أخرى، وفي مقدمتها الصين، وهو ما سيؤثر على خريطة التحالفات دوليا.
● لا يقتصر أثر إعادة الانتشار العسكري الأمريكي المرتبط بالتصعيد ضد فنزويلا على الساحة اللاتينية، بل يمتد ضمنيًا إلى بنية المظلة الأمنية الأمريكية في مناطق أخرى، وفي مقدمتها الخليج. فالدعوات الصادرة داخل واشنطن لإعادة ضبط الحضور العسكري العالمي، وتوجيه الموارد نحو مسارح تُصنَّف بوصفها أكثر إلحاحًا للأمن القومي الأمريكي، ستعني عمليًا تقليص الاهتمام النسبي بمناطق تراجعت أولويتها في الحسابات الاستراتيجية، وضمن هذا الإطار سحبت واشنطن حاملة الطائرات جيرالد فورد من البحر المتوسط ووجهتها نحو البحر الكاريبي.
● هذا التحول في الأولويات سيقود إلى انتشار عسكري يركز على الحضور الانتقائي القائم على قواعد الوصول السريع والتمركز المرن والقدرة على التدخل عند الضرورة، بدلا من الانتشار الكثيف والدائم. ومع توسع الولايات المتحدة في إنشاء أو تعزيز مواقع ذات أهمية استراتيجية في نصف الكرة الغربي مثلما تنص عليه استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة، ستتراجع مركزية منطقة الخليج في معادلة الردع الأمريكية، بما يفرض على دوله إعادة تقييم افتراضات الاستقرار المرتبطة بالمظلة الأمريكية، وتحمل قدرا أكبر من أعباء الأمن الذاتي، أو تنويع ترتيباتها الدفاعية في ظل تآكل اليقين بشأن استدامة نمط الحماية الأمريكي.
● بالنسبة للعالم العربي، تكمن أهمية الحالة الفنزويلية في كونها اختبارًا جديدًا لقواعد الاشتباك في عهد ترامب. فالتعامل الأمريكي مع فنزويلا يعكس اتجاهًا نحو استخدام أدوات القوة لإعادة ضبط التوازنات في مناطق تُصنّف بوصفها حيوية للمصالح الأمريكية، وهو اتجاه يحمل ارتدادات محتملة على بنية النظام الدولي وعلى هوامش المناورة المتاحة للدول العربية في المرحلة المقبلة.
● يشكّل النفط أحد العوامل الرئيسية في الحسابات الأمريكية. ففنزويلا تمتلك أحد أكبر الاحتياطيات المؤكدة عالميًا بنسبة 17% من الاحتياطي العالمي، لكن إنتاجها تراجع إلى مستويات هامشية تبلغ مليون برميل يوميا بفعل العقوبات ونقص الاستثمارات في مجال الصناعات النفطية. هذا الاختلال بين الاحتياطي والإنتاج يمنح واشنطن حال تنصيبها نظاما صديقا لها قدرة على إعادة إدماج النفط الفنزويلي في السوق العالمية عبر شركات أمريكية، بما يسمح بتعديل توازنات العرض والطلب خارج أطر التنسيق التقليدية، ويحدّ من قدرة المنتجين الآخرين، خاصة دول خليجية وروسيا، على التحكم الجماعي في السوق.
● في هذا السياق، تكتسب الأزمة الفنزويلية أهمية للعالم العربي، لا سيما للدول المنتجة للنفط. فإعادة تأهيل قطاع الطاقة الفنزويلي حال حدوث تغيير سياسي أو تخفيف جذري للعقوبات، قد تؤدي إلى ضغوط إضافية على أسعار النفط، وتُضعف أدوات إدارة السوق لدى أوبك+، وتمنح واشنطن ورقة إضافية في إدارة علاقتها مع المنتجين العرب.