الحدث
شهدت الفترة من 30 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 20 ديسمبر/ كانون الأول 2025 هجمات على سفن بحرية روسية داخل المياه الاقتصادية التركية في البحر الأسود، فضلا عن اختراق طائرات مسيرة للأجواء التركية. فقد تعرضت ناقلة النفط “فيرات” إلى هجوم بواسطة مركبة بحرية مسيّرة في المياه الدولية بالبحر الأسود على مسافة 35 ميلًا بحريًا من السواحل التركية، كما تعرضت ناقلة النفط “كايروس” لانفجار إثر هجوم على بعد نحو 28 ميلًا من سواحل البحر الأسود، وأعلنت أوكرانيا مسؤوليتها عن الهجومين، فيما نفت كييف مسؤوليتها عن هجوم بطائرة مسيرة استهدف السفينة “ميدفولغا-2” على بعد 80 ميلاً من الساحل التركي. وفي سياق متصل، تعرضت ثلاث سفن ترفع العلم التركي لأضرار خلال هجمات روسية استهدفت موانئ تشورنومورسك وأوديسا الأوكرانية على البحر الأسود. وأسقطت مقاتلة تركية من طراز F-16 طائرة مسيّرة اخترقت المجال الجوي التركي. ثم عُثر على طائرة مسيّرة روسية من طراز Orlan-10، في ولاية كوجالي، وأخرى يعتقد أنها من طراز Merlin في حقل خالٍ بولاية باليكسير.
التحليل: روسيا وأوكرانيا تضغطان عسكريا لأهداف ميدانية وتفاوضية
● تشير هذه التطورات إلى أن كلا طرفي الحرب الروسية الأوكرانية يلجأ إلى توسيع دائرة رقعة القتال، معتمدا على أدوات منخفضة التكلفة وعالية التأثير، مثل المسيّرات الجوية والبحرية، بهدف الضغط على الوسطاء لقبول مطالب كل منهما في ظل عملية التفاوض الجارية برعاية أمريكية، وهو ما دفع الرئيس التركي أردوغان للاجتماع خلال أقل من شهر مع الرئيسين الأوكراني زيلنسكي في أنقرة، ومع الرئيس الروسي بوتين في عاصمة تركمانستان عشق آباد، للدفع باتجاه إنهاء الحرب.
● عملياتيا، تسعى أوكرانيا لتعطيل شبكات الإمداد التي تتيح لموسكو الالتفاف على العقوبات والحفاظ على تدفقات الطاقة والتجارة، وذلك بهدف إلحاق أضرار بالاقتصاد الروسي وعرقلة تمويل آلة الحرب، وهو ما دفعها لاستهداف ناقلات النفط وسفن الشحن الروسية في البحر المتوسط وبحر قزوين للمرة الأولى منذ بدء الحرب فضلا عن السواحل التركية، رغم إدراكها أن تلك الهجمات تنقل المخاطر إلى فضاء ملاحي تشترك فيه دول غير منخرطة في الحرب، وهو ما يعزى إلى تراجع وضع كييف ميدانيا في جبهات القتال، وتعرضها لضغوط أمريكية للقبول بوقف إطلاق نار يلبي مطالب موسكو.
● بدورها، تندرج الهجمات الروسية في البحر الأسود ضمن استراتيجية تسعى إلى تقييد قدرة كييف على استخدام البحر الأسود كممر تجاري. كما تضغط تلك الهجمات على الدول المشاطئة عبر رفع كلفة الملاحة والتأمين وتعريض السفن المحايدة لمخاطر جانبية، دون الدخول في صدام مباشر مع تلك الدول.
● لا يحمل وصول الطائرات المسيّرة إلى داخل الأراضي التركية بالضرورة رسالة عدائية مباشرة لأنقرة، لكنه يؤدي وظيفة تتعلق بتوسيع مجال الاضطراب وخلق بيئة أمنية ضاغطة مثلما يحدث في شرق أوروبا. وفي ذات الوقت يسمح هذا التكتيك بإبقاء الحوادث في مستوى يمكن تبريره تقنيًا تحت عنوان فقدان السيطرة أو أخطاء الملاحة.
بالنسبة لتركيا، تطرح هذه التطورات معضلة مركبة. فمن جهة، لا تستطيع أنقرة التساهل مع اختراق مجالها الجوي أو تعريض الملاحة في البحر الأسود للخطر، ومن جهة أخرى، تحرص على عدم الانزلاق إلى مواجهة سياسية أو عسكرية مباشرة مع موسكو وكييف، في ظل تشابك ملفات الطاقة والتجارة والتوازنات الإقليمية. ولذلك، جاء الرد التركي محسوبًا، كما جمع بين إجراءات تكتيكية، مثل إسقاط طائرة مسيرة، وخطاب سياسي حذر يتجنب توجيه الاتهام المباشر لأي من طرفي الصراع لتجنب تأزيم العلاقات.
وقع الجزء الأكبر من الحوادث البحرية في نطاق “المنطقة الاقتصادية الخالصة” (EEZ) أو بمحاذاتها، وهي مساحة بحرية تقع خارج البحر الإقليمي لكنها تمنح الدولة الساحلية حقوقا سيادية في استغلال الموارد وتنظيم بعض الأنشطة الاقتصادية. ولا تنبع حساسية الأمر بالنسبة لأنقرة من البعد القانوني فحسب، بل من أن تحويل هذا النطاق إلى مساحة اشتباك يضرب أحد ركائز سياسة تركيا الأمنية في البحر الأسود، وهي إبقاء خطوط التجارة والطاقة تحت سقف الاستقرار، وخارج نطاق الحرب. لذلك فإن أنقرة تواجه ضرورة الردع لضمان سلامة الملاحة، وتفادي تثبيت سابقة تجعل المجال البحري التركي ساحة ضغط مفتوحة للطرفين.
ويشير النشاط الدبلوماسي الذي قاده وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عبر الاجتماع مع الأمين العام لحلف الناتو مارك روته، وعقد اجتماع ثلاثي مع نظيره البلغاري ونظيرته الرومانية، لمناقشة أمن البحر الأسود، إلى أن أنقرة ستفضل اعتماد حلول أمنية جماعية مع الناتو وبلغاريا ورومانيا عبر تعزيز تنسيق المراقبة البحرية، والتعامل المشترك مع الألغام والمسيّرات، مع الضغط سياسيا على كييف وموسكو للكف عن توسيع دائرة الحرب.
في الأجل القصير، قد تترجم هذه التطورات في احتمالات مخاطر مثل: ارتفاع أقساط التأمين البحري، أو طلب مسارات بديلة، أو فرض متطلبات أمنية إضافية (مثل مرافقة حراسة مسلحة)، بما يرفع الكلفة على الشركات التركية وعلى حركة الشحن الإقليمية ككل. وفي مثل هذه البيئات، تتحول الضربات منخفضة التكلفة إلى أداة تعطيل اقتصادي غير متكافئة؛ فهي لا تحتاج إلى تدمير واسع كي يتحقق أثرها، بل يكفي أن تُقنع السوق بأن “الاحتمال” صار مرتفعا، أو حتى متوقعا، فتدفع الممر البحري إلى حالة توتر تجاري مزمن، وهو ما يضغط على أنقرة بوصفها الطرف الذي سيدفع جزءا كبيرا من فاتورة التأمين والسمعة والاستقرار.
- وبينما من المرجح أن تواصل تركيا نهجها الهادئ متعدد الأطراف من أجل احتواء التهديد المتصاعد، فإن ثمة مؤشرات سنراقبها في الأسابيع القادمة ستحدد احتمالات التصعيد الممكنة، وبالتالي إمكانية تطور الموقف التركي لنهج أكثر صرامة، أبرزها ما يلي:
⦾ وقوع إصابات بشرية أو تلوث (تسرّب) كبير أو أضرار متكررة لسفن ترفع العلم التركي قرب نطاقها الاقتصادي.
⦾ تكرار اختراق المجال الجوي أو اقتراب المسيّرات من بنية تحتية حساسة أو مناطق سكنية، بما يحوّل الاعتراض من إجراء استثنائي إلى روتين عملياتي.
⦾ تبلور نمط ممنهج واضح للهجمات يحدّ من مصداقية هامش “التبرير التقني” ويُحرج أنقرة داخليا وخارجيا.