الحدث:
في خطوة لافتة على مسار تطور العلاقات بين تركيا والقوى المسيطرة على شرق ليبيا؛ زار رئيس جهاز المخابرات التركي، إبراهيم قالن، مدينة بنغازي للقاء اللواء خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي” والحاكم الفعلي لشرق ليبيا، وذلك يوم الإثنين 25 أغسطس/ آب 2025. وقد التقى قالن أيضًا بصدام حفتر، الذي عُيّن في وقت سابق من شهر أغسطس من قِبل والده نائبًا للقائد العام للجيش الوطني الليبي، وهو ثاني أعلى منصب في الجيش. في الوقت نفسه؛ كشفت تقارير عن قرب تصديق البرلمان الليبي على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها أنقرة مع حكومة غرب ليبيا عام 2019.
التحليل: تركيا تتجه لدور أوسع شرق وجنوب المتوسط

تسعى تركيا للاستفادة القصوى من تراجع نفوذ روسيا، الحليف الأقوى لخليفة حفتر، على إثر الانشغال بتعقيدات الحرب في أوكرانيا، فضلا عن خسارة النفوذ الاستراتيجي في سواحل سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، تزامنا مع تعاظم التحديات الأمنية لأوروبا وحاجتها لتأكيد الشراكة مع تركيا في هيكلها الأمني الجديد. ومن ثم تقدم تركيا نفسها من خلال علاقات قوية بطرفي النزاع في ليبيا كضامن رئيسي للأمن في الضفة الجنوبية للمتوسط، وحليفا قادرا على ملء فراغات تراجع نفوذ موسكو، بدءا من جنوب القوقاز إلى ليبيا. ومن المرجح إذا نجحت تركيا في تأسيس تواجد استراتيجي قوي في ليبيا أن تصبح منصة لتوسيع نفوذها بصورة عامة داخل أفريقيا، خاصة في منطقة الساحل، وهو الذي يتقدم بالفعل تدريجيا خلال السنوات الأخيرة.
ويعكس التحرك التركي المدروس إقرارا بعدم إمكانية تجاوز خليفة حفتر باعتباره يمثل سلطة أمر واقع ليس من السهل إزاحتها في المدى القريب أو المتوسط دون تدخل عسكري واسع لا تتوفر مقوماته. ومع هذا؛ وعلى الرغم عن هشاشة الوضع الأمني غربيّ ليبيا في ظل انقسام سياسي يهد بسقوطه في اقتتال داخلي واسع، فليس من المرجح أن تتخلى أنقرة عن شراكتها مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا بقيادة عبد الحميد الدبيبة، على الرغم من استياء طرابلس المتوقع من التحرك التركي تجاه الشرق. ففي الوقت الذي كانت علاقتها مع حفتر آخذة في التطور؛ وقعت أنقرة مع طرابلس في يوليو/ تموز 2025 اتفاقا لتعزيز الشراكة العسكرية بين الطرفين، يتضمن التعاون في مجالات التدريب العسكري المتقدم وتبادل الخبرات والدعم الفني واللوجستي. كما استأنفت الخطوط الجوية التركية في 2 سبتمبر/ أيلول رحلاتها المباشرة من إسطنبول إلى مصراتة غربي ليبيا، بعد توقف دام عشر سنوات، ضمن مؤشرات لتمسك أنقرة بالتوازن في علاقاتها مع الطرفين اللذين يتقاسمان السيطرة على ليبيا.
من جانب حفتر؛ فإن تسوية نزاعه مع تركيا لا تنفصل عن نهج حفتر الدائم القائم على تنويع الشراكات مع القوى الإقليمية والدولية بهدف الاعتراف بسلطته في ليبيا. والأهم من ذلك؛ أن تطور التعاون مع تركيا قد يوفر لحفتر دعما عسكريا لقواته يوازن الدعم العسكري الذي تقدمه أنقرة لحكومة الوفاق الوطني. ولا يبدو هذا الاحتمال بعيدا في ظل متابعة زيارات صدام حفتر المتكررة مؤخرا لأنقرة.
إقليميا؛ يهدد هذا التوافق، لاسيما إذا تضمن التصديق على الاتفاقية البحرية، طموحات اليونان في شرق المتوسط، كما يفقد مصر فعالية إحدى أهم أوراق الضغط التي تمتلكها ضد أنقرة. فعلى الرغم من تطور العلاقات المصرية التركية خلال السنوات القليلة الأخيرة، لا تزال الشكوك تكتنف الموقف المصري حيال توجهات السياسة التركية، وترفض بصفة عامة اتساع نفوذه في الشرق الأوسط والمنطقة العربية. بالإضافة لذلك؛ يمثل صعود صدام حفتر كخليفة محتمل لوالده مؤشرا على حدود النفوذ المصري الذي يميل أكثر إلى بلقاسم حفتر.
وفي ظل القيود الجيوسياسية والاقتصادية التي تعاني منها القاهرة، فلن تكون على الأرجح قادرة على تعطيل الاتفاق، كما أن اليونان ستكون قدرتها محدودة للغاية على حشد موقف أوروبي ضد الاتفاقية نتيجة انشغال أوروبا بأولويات أخرى، وميلها لتجنب توتر العلاقات مع تركيا التي باتت ترتبط بأهداف أمنية جيواستراتيجية. بل سيكون من المحتمل أن ترحب دول رئيسية في الاتحاد الأوروبي بالاتفاق إذا تضمن تعهدا بكبح معدلات الهجرة غير الشرعية تجاه سواحل أوروبا. إذ يفتح تطور علاقات تركيا بكافة اللاعبين في ليبيا المجال كي تمارس تركيا دورا أكثر تقدم في تقديم الدعم الأمني اللازم لتأمين سواحل ليبيا على المتوسط.