في قلب جرفٍ صخري على سواحل خليج البنغال، تبني الهند قاعدة بحرية قد تُغيّر موازين القوى في المحيط الهندي. تُدعى القاعدة “آي إن إس فارشا”، وتُعد من أكبر المشاريع العسكرية السرية في جنوب آسيا، بميزانية تصل إلى 3.7 مليار دولار، وقد صُممت لتحمّل هجوم نووي مباشر، مع أنفاق تسمح لغواصات نووية بالرسو والاختفاء دون أن تلتقطها الأقمار الصناعية.
ما الذي يجعل فارشا مختلفة؟
- تقع القاعدة على الساحل الشرقي للهند
- تُغطي 20 كلم مربعاً من التضاريس الجبلية
- بمجرد اكتمالها في عام 2026، ستكون مركزاً لتشغيل 12 غواصة نووية هندية
- ستصبح حجر الزاوية في ثالوث الردع النووي الهندي، إلى جانب الصواريخ الأرضية والطائرات القاذفة
الفكرة ليست فقط في العدد، بل في “القدرة على الضربة الثانية”، وهي الميزة الاستراتيجية التي تمنحها القاعدة للهند في حال تعرضها لهجوم نووي مباغت.
تملك الصين حاليًا 12 غواصة نووية بالستية، مقابل غواصتين فقط للهند من هذا النوع. لكن تفوق الصين العددي لا يُترجم تلقائيًا إلى هيمنة. فالهند تُدير عملياتها بالقرب من مياهها، ما يمنحها ميزة تكتيكية لوجستية، خاصة أن العديد من غواصاتها الديزل-كهربائية قادرة على التمركز داخل النطاق التشغيلي للغواصات الصينية. في حالات الصراع عالية الخطورة، تكون الضربة الأولى حاسمة، لكن القدرة على الضربة الثانية هي التي تردع الحرب. وهنا تُراهن الهند على موقع فارشا المحصّن لإبقاء غواصاتها بعيدًا عن أعين التجسس، بما فيها أقمار الاستطلاع الصينية.
سباق الغواصات… والردع المتنقل
منذ إطلاق الغواصة INS Arihant عام 2016، دخلت الهند نادي الدول القليلة القادرة على تصنيع غواصات بالستية نووية محليًا. وتضم فئة أريهانت صواريخ “كالام-4” بمدى يصل إلى 3,500 كلم، ما يضع منشآت عسكرية صينية مثل جزيرة هاينان ضمن دائرة الاستهداف. في 2024، أطلقت الغواصة “INS Arighat” صاروخ كالام-4 في اختبار ناجح، ما مثّل لحظة رمزية لقدرة الهند على نقل الردع النووي من البر إلى البحر. تكلفة بناء غواصة واحدة من فئة أريهانت: 470 مليون دولار. لكن الرحلة لم تكن سلسة. في 2017، أدت ثغرة في إغلاق فتحة خلفية إلى غرق نظام الدفع في إحدى الغواصات، واضطرت البحرية إلى إخراجها من الخدمة لعشرة أشهر، ما سلط الضوء على هشاشة بعض القدرات الفنية.
على الجانب الآخر من الصراع، تعمل الصين على تثبيت نفوذها في خليج البنغال، حيث تمر واحدة من أكثر طرق الشحن ازدحامًا في العالم، ويحتوي المضيق على 7% من مصايد العالم، وتمر منه 30% من تجارة البضائع العالمية، بما في ذلك 23.7 مليون برميل نفط يوميًا. يمثل مضيق ملقا نقطة اختناق حيوية. فهو شريان حياة للطاقة الصينية، إذ تمر عبره 80% من واردات النفط والغاز إلى الصين. وهذا ما دفع بكين لتشييد موانئ وقواعد بديلة في ميانمار وباكستان ووسط آسيا.
- تشاوبيو في ميانمار: ميناء بـ7.3 مليار دولار
- الممر الصيني-الباكستاني: 3,000 كلم من البنية التحتية نحو كراتشي وجوادر
- الممر الأوسط: عبر آسيا الوسطى وقزوين إلى تركيا وأوروبا
لكن رغم طموحها، لا تغطي هذه الممرات حجم الحركة التي يمر بها مضيق ملقا، لذا تستثمر الصين بكثافة في البحرية.

وفق وزارة الدفاع الأمريكية، تملك الصين 370 سفينة حربية (حتى 2023)، أي أكثر بـ78 سفينة من الأسطول الأميركي. لكن 96 منها مخصصة للدفاع الساحلي، ما يعني أن تفوقها العددي لا يعكس بالضرورة تفوقًا نوعيًا. تُراهن بكين الآن على بناء أسطول أعماق، يشمل:
- مدمرات نوع 055
- غواصات نووية نوع 092
- 3 حاملات طائرات
ومع التوسع في “بحرية المياه الزرقاء”، تحتاج الصين لقواعد دعم خارجية. ولهذا، بدأت في إنشاء قواعد في:
- جيبوتي (افتتحت 2017)
- بنغلاديش، كمبوديا، تنزانيا (قيد التفاوض)
لكن ما يُقلق الهند هو أن الصين باتت تنشر قوات بحرية في خليج البنغال، مستخدمةً منشآت محلية مثل ميناء تشاوبيو وقاعدة “بي إن إس بيكوا” البحرية في بنغلاديش، ضمن استراتيجية “الوجود الدائم”. تقع هذه الجزر الهندية الاستراتيجية على بعد 300 كلم من ميانمار و500–600 كلم من مضيق ملقا. وتُمثّل أول خط دفاعي للهند ضد التوسع الصيني البحري، خاصةً أن لها منطقة اقتصادية خالصة تعادل 30% من إجمالي المياه الإقليمية الهندية.
- المطار الجديد “INS Kohasa” قادر على استقبال طائرات Boeing P-8 Poseidon المضادة للغواصات.
- هناك 3 مطارات عسكرية ومراقبة متطورة تجعل من هذه الجزر “مركز إنذار مبكر” ضد أي تحرك صيني في جنوب شرق آسيا.
استراتيجية “تحرّك شرقًا”
وضمن ما يُعرف بسياسة “التحرّك شرقًا” التي أطلقها رئيس الوزراء ناريندرا مودي، وسّعت الهند تعاونها العسكري مع دول جنوب شرق آسيا، وتحديدًا:
- تسليم أول دفعة من صواريخ براهموس لـ الفلبين في أبريل 2024
- مفاوضات مع فيتنام لصفقة مماثلة
يُعد صاروخ “براهموس” من أسرع الصواريخ الجوّالة في العالم، ويمكن إطلاقه من البر أو البحر أو الجو. بين قاعدة فارشا، وتحديث أسطول الغواصات، وتوسيع الوجود في أندمان ونيكوبار، تتجه الهند لبناء قدرة بحرية ردعية مرنة، تهدف إلى احتواء الصين وفرض التوازن في المحيط الهندي.
في المقابل، تواصل الصين الانتشار وفرض “وجود دائم” في منطقة تعتبرها الهند ساحتها الخلفية. المعركة ليست مجرد أرقام سفن وغواصات، بل سباق على من يفرض أمرًا واقعًا في المياه، ومن يُحاصر من. وفي عالم لا تُمنح فيه السيطرة، بل تُنتزع… تُصبح القواعد البحرية ومضائق الشحن وأعماق المحيط، ساحات لصراع طويل المدى، يحدد شكل النظام الآسيوي لعقود مقبلة.