كيف تغير روسيا حدود بحر البلطيق؟ 

تخريبٌ وتخويفٌ وإكراه، ثلاث كلمات تصف علاقة روسيا وجيرانها، فبينما تظل أوكرانيا محور تركيز الناتو، بدأت منطقة البلطيق تتحول إلى بؤرة صراع ثانية. ولا شك أن انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو قد عزز قوة التحالف، لكنه أثار التدابير الروسية المضادة أيضاً، إذ اقترحت الوثائق المسربة من وزارة الدفاع الروسية خططاً لتغيير الخرائط البحرية، وإعادة تعيين حدود روسيا في خليج فنلندا وبالقرب من كالينينغراد، يريدون بذلك تحريك خطوط الأساس التي تُعيِّن الحدود البحرية على وجه الخصوص، ليوسعوا نفوذهم بالتبعية. ويؤكد الروس على أن الوثيقة المسربة ليست لها دوافع سياسية، كونهم يتبعون القانون الدولي فحسب، لكن مسؤولي الناتو ليسوا مقتنعين بذلك.

من هنا يظهر وجود صراع هجين دائر أسفل أمواج البحار الهادئة، ولا يزال الشطر الأكبر منه مخفياً عن العيان، لكن شظايا هذه الحرب الخفية تبرز إلى السطح من آنٍ لآخر. 

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف تغير روسيا حدود بحر البلطيق؟ 

قلب الطاولة

يقع بحر البلطيق في شمال أوروبا، وهو بحرٌ داخلي يتصل بمحيطات العالم عن طريق المضايق الدنماركية، ويمثل بوابة إلى الأسواق العالمية بالنسبة للدول القريبة، كما أنه مسرحٌ لفرض الهيمنة في الخارج أيضاً، إذ يُعد هذا البحر بمثابة طريق سريعة للطاقة والأمن الأوروبيين، لأنه يربط الأسواق القاصية والدانية عبر أنابيب وكابلات تمتد على طول قاعه. لكن تخريب نورد ستريم 2 أظهر مدى هشاشة تلك الأنظمة، إذ يمكن لأبسط هجومٍ بالأدوات المناسبة أن يُحدِث مشكلات كبيرة، وليست روسيا أو حلف الناتو على استعداد كامل للتعامل مع تهديدات كهذه.

  • كانت روسيا صاحبة مصالح رئيسية داخل المنطقة في الماضي
  • سيطرت في وقتٍ ما على نحو نصف ساحل البلطيق
  • تحركت السفن الروسية بحريةٍ هناك
  • بمرور الوقت وتقلُّص مساحة أراضيها خسرت روسيا الشطر الأكبر من ساحلها
  • لا تسيطر اليوم سوى على 659 كم من ساحل البلطيق تشمل 512 كم بجوار خليج فنلندا و147 كم قرب كالينينغراد

ويُعَدُّ ساحل روسيا البحري صغيراً لدرجةٍ صادمة مقارنةً مع مساحتها الضخمة، ما أكسب جيباها الرئيسيان على البحر ثقلاً استراتيجياً هائلاً، حيث تُعَدُّ كالينينغراد أشبه بحصنٍ مسلح يعُج بالأسلحة النووية، والمقاتلات النفاثة، والأفراد العسكريين. كما أنها مقر أسطول البلطيق الروسي الذي يضم نحو 40 سفينة سطحية وبضع غواصات. وتتمتع كالينينغراد الضئيلة بقوةٍ نيرانية تفوق قوة بعض الدول متوسطة الحجم، وعادةً ما تُوصف بالخنجر الموجه إلى قلب الجبهة الشرقية للناتو. 

وإذا اتجهنا شمالاً؛ سنجد مدينة سانت بطرسبرغ التي تُعد بوابة روسيا إلى أوروبا، وتقع قاعدة كرنشتات البحرية في هذه العاصمة السابقة، لكن المنطقة تمثل مركزاً اقتصادياً في المقام الأول، إذ إن سانت بطرسبرغ من أكبر المراكز المالية في المنطقة. وفي 2021، قبل الحرب الأوكرانية، كانت المدينة تشكل 6% من إجمالي الصادرات الروسية، لكن انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو جعل ساحل روسيا الصغير يبدو أصغر، وصار خليج فنلندا أشبه بممرٍ ضيقٍ يقع تحت سيطرة الناتو المحكمة، وهذا تهديدٌ كبير لموسكو بطريقةٍ لم تعهدها من قبل.

إذ تتمتع إستونيا وفنلندا بنظام دفاع صاروخي ساحلي مشترك، ومع وجود قوات الناتو الجوية والبحرية القريبة، ستواجه أي سفينةٍ روسية تحاول عبور خليج فنلندا هجمات ثقيلة، ومن المرجح أن تعلق في حصار بحري، أي إنه وفي حالة الصراع؛ ستصبح كالينينغراد معزولةً تماماً عن البر الرئيسي لروسيا، كما ستتضرر التجارة الروسية بشدة، ومع ذلك، يمتلك الروس خطةً احتياطية.

  1. ليست كالينينغراد معزولةً بالدرجة التي تبدو عليها، إذ إن الشيء الوحيد الذي يفصلها عن بقية روسيا هو ممر سوالكي، الذي يبلغ عرضه 100 كم، والذي يوصف بأنه نقطة ضعف حلف الناتو.
  2. أثناء الحرب، قد تحاول روسيا الزحف إليه عبر الأراضي الليتوانية المسطحة وقليلة السكان
  3. ستؤدي السيطرة على سوالكي إلى قطع الطريق على دعم الناتو البري لدول البلطيق
  4. باحتلاله، ستربط روسيا مدينة كالينينغراد بالتعزيزات الآتية من سانت بطرسبرغ، لتكسر أي حصار

وتبدو الخطة معقولة، لكن الحرب في أوكرانيا أثبتت أن الخطط قد تنهار مع أول اشتباك أحياناً. والمؤكد هو أن وضع روسيا في بحر البلطيق بلغ أضعف مستوياته التاريخية، إذ توسّع حلف الناتو حجماً وعمقاً ونطاقاً ليقلص النفوذ الروسي، وقد فاض الكيل ببعض مسؤولي الكرملين اليوم، وأصبح قلب الطاولة هو السبيل الوحيد لكسب هذه اللعبة.

كيف تغير روسيا حدود بحر البلطيق؟

التسريب “غير المقصود”

في الـ21 من مايو/أيار 2024، نشرت وزارة الدفاع الروسية مشروع قرار على موقعها، واقترحت فيه توسيع حدودها البحرية مع ليتوانيا وفنلندا أحادياً، ثم جرى حذف الوثيقة في غضون 24 ساعة، ولم يكن مشروع القرار ورقة السياسة الرسمية في حد ذاته، لكنه كان دليلاً إرشادياً فنياً يرتبط بوثيقة سياسة أخرى لا نعرف شيئاً عن تفاصيلها أو وجودها من الأساس.

ومع ذلك، أعلنت تلك الوثيقة أن من الضروري تغيير نقاط الإحداثيات، لتحديد خطوط أساسٍ جديدة في بحر البلطيق، وخط الأساس البحري هو نقطة الانطلاق التي تُحدِّد بها الدولة مياهها الإقليمية، ومنطقتها الاقتصادية الخالصة. وتنص اتفاقية قانون البحار على أحقية الدول مدّ حدود مياهها الإقليمية لمسافة 12 ميلاً بحرياً من خط الأساس، وبعدها تأتي المنطقة المتاخمة التي تبعد عن الخط 24 ميلاً بحرياً، وتتمتع الدولة الساحلية بنفوذ محدود في هذه المنطقة مقارنةً بالسيادة الكاملة لها على مياهها الإقليمية.

ومن ثم تأتي المنطقة الاقتصادية الخالصة، التي تصل إلى مسافة 200 ميل بحري من خط الأساس، وهنا يحق للدول أن تنقب عن الموارد البحرية لاستغلالها، وبناءً على شكل الجرف القاري في بعض الحالات، قد تمتد الحدود القانونية لتصل إلى 350 ميلاً بحرياً. لذا يُعد خط الأساس العنصر الأهم في تحديد كل هذه الحدود، فهو نقطة الانطلاق لقياس حجم المناطق البحرية، وإذا حركت خط الأساس للأمام؛ فهذا يعني تحريك المياه الإقليمية والمنطقة المتاخمة، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وهلُم جرا.

وسيؤثر هذا بالتبعية على طرق التجارة، والسيادة القضائية، وعقود التأمين في كافة البلدان المجاورة، أي إن أهمية خط الأساس البحري لسلامة مياه الدولة، تعادل أهمية الأنهار والجبال والأسوار ونقاط التفتيش لسلامة حدودها البرية، وتستهدف مسودة الوثيقة الروسية إعادة صياغة هذا الإطار برمته. إذ زعمت أن الخرائط البحرية التي تحدد خطوط الأساس الروسية الحالية قد عفاها الزمن، ويجب تحديثها بما يخدم مصالح روسيا، وفي مساحةٍ صغيرةٍ بقدر خليج فنلندا، يُعد كل ميلٍ بحري بمثابة عمق استراتيجي مكتسبٍ أو مفقود، لكن حجة روسيا ليست معدومة الأسس بالكامل، إذ لم تجرِ مراجعة الخرائط المستخدمة اليوم منذ عام 1985، وقتما كان الاتحاد السوفيتي لا يزال مسيطراً.

  • تقترح الوثيقة المسربة ضم بعض المسطحات المائية إلى مياه روسيا الداخلية شرقي خليج فنلندا وقرب مدينتي بالتييسك وزيلينوغرادسك في كالينينـغراد
  • لفعل هذا بالقرب من كالينينغراد؛ سيتعين على روسيـا تغيير خطوط أساسها في برزخ قورش ولسان تاران وبرزخ فيستولا
  • في خليج فنلندا، فستحتاج لتعديل إحداثيات جزر سومرز وجوجلاند وسيسكار ومالي فيسوتسكي وموشيشني وبولشوي تيوتيرس ومالي تيوتيرس
  • يجب أن تغير الإحداثيات بالقرب من المدخل الشمالي لنهر نارفا

ستُتيح هذه التغييرات لروسيا مد نفوذ أكبر على مياه محيطةٍ بها لتصبح جزءاً من مياهها الإقليمية لتغير بذلك حدودها البحرية وتقطع الاتصال البري لحلف الناتو، لكن الوثيقة المسربة حُذِفَت في غضون 24 ساعة. كما نفت موسكو أي خطط لتغيير خطوط أساس بحر البلطيق، وإن من الممكن اعتبار الأمر خطأ غير مؤذٍ لو كنا في زمانٍ ومكانٍ مختلفين، لكن بعد يومين فقط، أزال حرس الحدود الروسي عوامات الملاحة من الجانب الإستوني لنهر نارفا الفاصل بين البلدين، واختفت بين ليلةٍ وضحاها 24 عوامة من أصل 50 عوامةً بحرية وُضِعت حديثاً.

وأثارت الخطوة قلقاً خاصاً، لأن العوامات التي تضعها إستونيا بالتعاون مع روسيا عادةً ما تُعتبر ضروريةً لسلامة الملاحة في نهر نارفا، وقد طالبت إستونيا بتفسيرٍ لما حدث، فأدلى المسؤولون الروس برد مُبهم يقول إن الحدود يجب أن تمتثل للقوانين الدولية، وإن إزالة العوامات كانت مجرد مشكلةٍ فنية. لكن الحادثة أظهرت في الواقع نيةً للتحرك بموجب وثيقةٍ يُفترض أنها سُرِّبت بطريق الخطأ، ونيةً لتحدي الناتو رغم ضعف الجيش الروسي، أي إن هذه الحادثة كانت بمثابة رصاصة البدء في ساحة معركة البلطيق.

فرق تسُد

قد تبدو تحركات روسيا في بحر البلطيق متهورةً وعدوانية، لكن الهدف منها يتمثل في تقويض قدرة الناتو، لا احتلال المنطقة، إذ ستكون الحرب المباشرة مع الناتو مدمرةً لروسيـا، ولا تعتمد الاستراتيجية على فتح جبهةٍ جديدة في منطقة البلطيق، بل تسعى لزعزعة الجبهة المشتعلة في أوكرانيا. وتُعد إستونيا وليتوانيا ولاتفيا وبولندا وفنلندا والدنمارك والسويد من أشد الداعمين لأوكرانيا، وتساهم دول البلطيق مثلاً بما يتراوح بين 1.5% و1.8% من ناتجها المحلي لدعم أوكرانيا، وهذا التزام أضخم من التزامات كل أعضاء الناتو الآخرين، أي إن إثارة النزاعات على الحدود تساعد روسيـا في تحويل بعض الاهتمام إلى منطقة البلطيق، مع الحفاظ على غموض الصراع بما يكفي للحد من التصعيد الأوسع.

  • يتطلع الكرملين إلى استغلال الانقسامات المتزايدة في شمال ووسط وشرق وجنوب وغرب أوروبا
  • نتحدث هنا عن سياسة فرق تسُد بصورتها الكلاسيكية
  • يعتمد فوز الروس في الحرب الأوكرانية على إضعاف موقف أوروبا المناهض لروسيـا، وكسر معارضتها الجماعية لموسكو
  • كل مواطن أو سياسي أو زعيم يجري إقناعه، أو تخويفه، أو استرضاؤه يترك أثراً متتابعاً على دعم أوكرانيا
  • يمكن لتغييرات صغيرة كعدد أقل من الأسلحة وأنظمة الدفاع الجوي، أو تأخير شحنة ذخيرة، أن تؤدي لمكاسب في ساحة المعركة.

حدث هذا حين أخرت المجر حزمة مساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، بقيمة 50 مليار يورو، لمدة ستة أسابيع، وحين أجّل الكونغرس الأمريكي حزمة مساعدات بقيمة 61 مليار دولار، إذ عرقلت هذه التأخيرات قدرة أوكرانيا على مواصلة جهودها الحربية، كما عطّلت هجومها عام 2023.

ولم تكن روسيا سبباً في هذه الأحداث بالضرورة، لكنها تعكس النتائج التي تسعى هي لتحقيقها. لكن أكثر من 70% من مواطني الاتحاد الأوروبي أيّدوا فرض عقوبات على روسيـا في 2024، فضلاً عن تأييد 55% منهم للمساعدات العسكرية لأوكرانيا، ويزداد حجم هذا التأييد داخل منطقة البلطيق.

إذ تعهّد رئيس وزراء إستونيا المنتخب حديثاً بدعم أوكرانيا حتى النصر، فيما تعهّدت بولندا بزيادة إنفاقها العسكري ليبلغ 4.7% من الناتج المحلي. علاوةً على أن انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو قد عزز الجبهة الشمالية للحلف، وتكشف المرونة المتزايدة لمنطقة البلطيق أن الاستراتيجية الروسية لم تنجح بعد. ولم يعثر الكرملين على نقطة ضعف يمكن استغلالها حتى الآن، لكن هذا لن يستمر للأبد بالضرورة، حيث تمثل إعادة ترسيم الحدود، أو التهديد بها، جزءاً محورياً من الحرب الهجينة الروسية ضد الناتو، وإذا استسلم حلفاء منطقة البلطيق، فسيكتشفون سريعاً أن روسيـا لا تكتفي بإعادة رسم الخرائط فحسب، بل تُعيد صياغة القواعد أيضاً.