في أعماق غابات كندا، تمتد شبكة فولاذية تحت الأرض، تُغذي اقتصاد البلاد وتربطها جيوسياسيًا بالعالم. هذه الشبكة من خطوط الأنابيب لم تعد مجرد بنية تحتية للطاقة، بل تحوّلت إلى رمز للسيادة الوطنية وأداة لتحرير القرار الاقتصادي، في وقتٍ تتصاعد فيه النزعة الحمائية داخل الولايات المتحدة، وتزداد الضغوط السياسية على العلاقات التجارية التقليدية بين البلدين.
كندا، التي تُعد من أكبر منتجي الطاقة في العالم، تعتمد بنسبة 98% من صادراتها النفطية على الولايات المتحدة. هذا الاعتماد المفرط بات مصدر قلق استراتيجي، لا سيما في ظل السياسات التجارية المتقلبة التي اتبعها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي أعادت إلى الواجهة أهمية تنويع الأسواق وتعزيز الاستقلال الاقتصادي.
مشروع ضخم لتقليص التبعية
في مايو/أيار 2024، أعلنت الحكومة الكندية عن الانتهاء من توسعة خط أنابيب النفط العابر للجبال، الذي يمتد من مقاطعة ألبرتا إلى ساحل المحيط الهادئ بطول 1,150 كيلومترًا. المشروع الذي استغرق أكثر من 12 عامًا من التخطيط والجدل، كلف الدولة نحو 25 مليار دولار، لكنه يُنظر إليه اليوم كأكثر من مجرد استثمار في البنية التحتية.
ترى الحكومة الكندية أن توسعة الخط تمثل خطوة استراتيجية لإعادة التوازن في العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وتعزيز السيادة على مصادر الطاقة الوطنية. فمع أن الولايات المتحدة لا تزال شريكًا تجاريًا مهمًا، إلا أن الاعتماد عليها بشكل كامل في تصدير النفط الكندي لم يعد خيارًا آمنًا. “الدولة التي تراهن على مشترٍ واحد، تقامر بمستقبلها”، كما يقول أحد المحللين الاقتصاديين الكنديين.

ألبرتا الحبيسة… وطموح الوصول إلى آسيا
تكمن إحدى العقبات الجغرافية الرئيسية في أن ألبرتا، قلب صناعة النفط الكندية، لا تمتلك منفذًا مباشرًا إلى البحر، ما يُعقّد عملية التصدير إلى الأسواق الخارجية، خصوصًا في آسيا حيث يتزايد الطلب على الطاقة. ومن هنا جاءت فكرة التوسعة: فتح نافذة على العالم عبر الساحل الغربي. من خلال المشروع، ارتفعت القدرة التصديرية من 300 ألف برميل يوميًا إلى 900 ألف برميل، أي ثلاثة أضعاف. وهذه الكمية ستُوجَّه نحو أسواق جديدة مثل اليابان، الصين، والهند، بدلًا من الاعتماد الحصري على السوق الأميركية.
تُشير تقديرات الحكومة الفيدرالية إلى أن التوسعة ستجلب خلال 20 عامًا:
- 73 مليار دولار كندي أرباحًا مباشرة للمنتجين (نحو 51 مليار دولار أميركي)
- 46 مليار دولار كندي إيرادات ضريبية إضافية للحكومة (ما يُعادل 32 مليار دولار أميركي)
أي أن المشروع يُعد مكسبًا اقتصاديًا بعيد المدى، لكنه لم يكن خاليًا من العقبات.
ضغوط بيئية واحتجاجات داخلية
منذ بداية المشروع، واجهت الحكومة الكندية موجة اعتراضات واسعة من نشطاء البيئة والمجتمعات الأصلية، الذين اعتبروا أن المشروع يتناقض مع أهداف البلاد المناخية، وخاصة التزامها بتحقيق الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050. في عام 2020، أقام المحتجون حواجز على خطوط القطارات في عدة مقاطعات، ما أدى إلى تعطيل خدمات الشحن والركاب لأسابيع. هذه المواجهات لم تكن فقط احتجاجًا على الخط، بل عكست أيضًا انقسامًا وطنيًا بشأن مستقبل الطاقة في كندا، بين من يرى ضرورة اقتصادية في تطوير قطاع النفط، ومن يدافع عن التحول إلى الطاقة النظيفة.
المفارقة أن كندا لا تعتمد على الولايات المتحدة فقط في تصدير النفط، بل أيضًا في توزيعه داخليًا. فعلى سبيل المثال، يُضخ النفط من ألبرتا إلى الولايات المتحدة، ثم يُعاد ضخه إلى مقاطعتي أونتاريو وكيبيك! وهذا يعكس هشاشة البنية التحتية الوطنية ويدفع الدولة للتفكير جديًا في بناء خطوط أنابيب جديدة تربط بين مناطق الإنتاج وموانئ التصدير دون الحاجة لعبور الأراضي الأميركية.
العودة إلى مشاريع كبرى تم إلغاؤها
في ضوء التغيرات السياسية وتحديات الأمن الطاقي، عاد الحديث مؤخرًا عن مشروعين طموحين كانا قد أُلغيا في السابق:
- خط أنابيب الطاقة للشرق (Energy East)
- الطول: 4,600 كم
- السعة: أكثر من مليون برميل يوميًا
- يربط ألبرتا وساسكاتشوان بمصافي نيو برونزويك على الساحل الأطلسي
- الطول: 4,600 كم
- خط البوابة الشمالية (Northern Gateway)
- الطول: 1,173 كم
- السعة: نحو 500 ألف برميل يوميًا
- يربط ألبرتا بميناء كيتيمات في كولومبيا البريطانية، بهدف التصدير إلى آسيا
- الطول: 1,173 كم
المشروعان أُلغيَا سابقًا بسبب ضعف الدعم الفيدرالي، اعتراضات محلية، ومخاوف بيئية. لكن اليوم، مع التوترات التجارية المتصاعدة، يُنظر إليهما كحلول استراتيجية ضرورية. “لو تفاقمت المواجهة مع ترامب، وظهرت طوابير في محطات الوقود أو نقص في الإمدادات، قد تُغيّر كندا أولوياتها وتقرر أن أمن الطاقة أهم من القلق البيئي”، بحسب أحد المراقبين.
العقبة الكبرى: من سيدفع الفاتورة؟
تمويل هذه المشاريع الضخمة يطرح تحديات هائلة. فتوسعة الخط العابر للجبال، التي بلغت كلفتها 25 مليار دولار، تُعد نموذجًا لما ستواجهه البلاد مستقبلاً
- خط البوابة الشمالية سيتطلب تمويلًا مشابهًا
- خط الطاقة للشرق، فهو أطول بأربع مرات، ما يعني أن تكلفته قد تصل إلى 100 مليار دولار
- الشركات الخاصة التي كانت مسؤولة عن هذه المشاريع (مثل إنبريدج وساوث بو) لم تُبدِ حماسة لإحيائها
- إذا لم تتدخل الحكومة الفيدرالية، فإن هذه المشاريع ستظل حبرًا على ورق
لكن العودة إليها تتطلب توافقًا وطنيًا واسعًا، وهو أمر نادر في السياسة الكندية. في خضم هذه التحديات، لعب دونالد ترامب دورًا غير مباشر لكنه مؤثر. فسياساته العدائية دفعت الكنديين إلى إعادة التفكير في مصادر قوتهم الاقتصادية. وفي بادرة نادرة، أرسل جميع رؤساء الوزراء الكنديين السابقين الأحياء خطابًا مشتركًا قالوا فيه إنهم لمسوا “تصاعد الفخر والوطنية الكندية” كرد فعل على خطاب ترامب. ربما تُحوّل كندا هذا التوتر إلى فرصة تاريخية: الاستثمار في البنية التحتية الطاقية كأداة للسيادة الوطنية. فحين تدفعك الضغوط الخارجية إلى توحيد الصفوف داخليًا، يصبح ما كان مستحيلًا يومًا ما، قابلًا للتحقيق.