تتحوّل كمبوديا تدريجياً من دولة حبيسة تعتمد على نهر ميكونغ للوصول إلى الأسواق العالمية، إلى لاعبٍ إقليمي ناشئ يسعى لفرض استقلاله الجغرافي والسياسي عبر مشروع ضخم: قناة الصين “فونان تيشو”، تمويل صيني، وطموحات تتجاوز التجارة إلى إعادة تشكيل توازن القوى في منطقة جنوب شرق آسيا.
يمتد المشروع على طول 180 كيلومترًا، انطلاقًا من العاصمة بنوم بنه وصولاً إلى مدينة كيب الساحلية على خليج تايلاند. وتُقدَّر كلفته بـ1.7 مليار دولار، تتكفل بها شركة الطرق والجسور الصينية الحكومية، في خطوة أثارت الكثير من الشكوك والقلق لدى فيتنام والولايات المتحدة.

قناة الصين هدف قومي ومكاسب اقتصادية
تحوّلت القناة إلى “مصدر فخر وطني”، بحسب مراقبين، منذ أن طرحها الزعيم الجديد هون مانيت، الذي يسعى إلى وضع بصمته بعيدًا عن ظل والده، رئيس الوزراء السابق هون سين. ويبدو أن مشروع القناة قد يكون طريقه إلى هذا الإرث، خاصة أن فائدته لا تقتصر على الرمزيات السياسية، بل تمتد إلى إعادة رسم خريطة التجارة في المنطقة.
“القناة تمثل فسحةً للتنفس”، كما وصفها مشرّعون كمبوديون، في إشارة إلى قدرة المشروع على تخفيف الاعتماد شبه الكامل على دلتا نهر ميكونغ الخاضعة للسيطرة الفيتنامية، والتي تمر عبرها غالبية صادرات كمبوديا.
- تأمل الحكومة الكمبودية أن تصبح البلاد من أكبر 10 منتجين زراعيين عالميًا بحلول عام 2030
- البنية التحتية البرية لا تخدم هذا الهدف
- لا تمتلك كمبوديا سوى 2,400 كيلومتر فقط من الطرق المعبّدة، ما يعزز أهمية الحلول النهرية.
خصائص تقنية وقدرات لوجستية ضخمة
- تُظهر الخطط أن عرض القناة سيبلغ 100 متر، بعمق 5.4 متر
- إتاحة استيعاب سفن بحمولة تصل إلى 3,000 طن، وهو ما يعادل حمولة 150 حاوية شحن كبيرة، وهي قدرات تُضاهي أنهاراً كبرى مثل المسيسيبي والدانوب
- يشمل المشروع بناء 3 سدود مائية، و11 جسرًا، وأكثر من 200 كلم من الأرصفة والطرق
- من المتوقع أن يكتمل العمل بحلول عام 2028
وتربط القناة بين المناطق الداخلية الزراعية والجنوبية الساحلية المعزولة، الأمر الذي يُحرّر صادرات كمبوديا من المرور عبر فيتنام، ويعزز قدرة البلاد على تسويق ثرواتها المعدنية. فبحسب المسوحات الفرنسية والصينية، يزخر جنوب كمبوديا بمعادن مثل الحديد، الذهب، النحاس، الألومنيوم، والفوسفات.
لا يُخفي المشروع بصماته الصينية، بل يؤكدها اسمه نفسه: “فونان” هو الاسم الصيني القديم لكمبوديا، ويعود تاريخه إلى القرن الثالث الميلادي. وتعد هذه التسمية بمثابة احتفاء بتاريخ النفوذ الصيني في البلاد، وامتداد فعلي لـمبادرة الحزام والطريق.
لكن القناة تُعد أيضًا جزءاً من استراتيجية صينية موازية تُعرف بـ**”خيط اللؤلؤ”**، وهي شبكة من الموانئ والقواعد البحرية تمتد من المحيط الهندي إلى بحر الصين الجنوبي، وتهدف إلى تطويق النفوذ الأمريكي والتحكم بمسارات الشحن العالمية. تشمل هذه الشبكة موانئ وقواعد في ميانمار وسريلانكا وباكستان وجيبوتي والإمارات، وقد تكون قاعدة ريام البحرية في كمبوديا أحدث حلقاتها.
قاعدة ريام: الواجهة العسكرية للمشروع
تقع القاعدة على مقربة من مصب القناة الجديدة، وتشهد منذ عام 2022 عمليات تطوير بتمويل صيني. وتشير صور الأقمار الصناعية إلى رسو سفن حربية صينية هناك، فيما رُفضت طلبات رسو من دول أخرى مثل اليابان. ويخشى البنتاغون أن تُستخدم القناة مستقبلاً كخط دعم في أي نزاع بحري أوسع. وبالرغم من أن عمق القناة لا يسمح إلا بمرور الأساطيل الساحلية الصغيرة، فإن قربها من ميناء ريام ذي المياه العميقة يمنح الصين موطئ قدم بحرياً بالغ الأهمية في المنطقة، خصوصاً أنها تُصرّ على أحقيتها في بحر الصين الجنوبي عبر ما يُعرف بـ”خط القطاعات التسعة” المتنازع عليه.
تشعر فيتنام بأن الخناق يُضيق عليها تدريجياً. فإلى جانب نزاعاتها التاريخية مع الصين حول جزر باراسيل وسبراتلي، تواجه اليوم تهديدًا استراتيجياً من قناة فونان تيشو، التي قد تُفقدها السيطرة على جزء مهم من تجارة المنطقة. فيتنام تخشى أن تُحول القناة مجرى 50% من مياه نهر ميكونغ مستقبلاً، ما قد يؤثر سلباً على دلتا ميكونغ التي تنتج 90% من صادراتها الغذائية، وتُسهم بـ17% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع انخفاض مناسيب النهر بسبب تغيّر المناخ، يبدو هذا التهديد حقيقياً وليس مجرد مبالغة.
ومن وجهة نظر فيتنام، فإن القناة تضعف موقعها التفاوضي أمام دول مثل لاوس وكمبوديا، وقد تُعيد تشكيل التحالفات الاقتصادية والسياسية في المنطقة.
التعاون الكمبودي الصيني يبدو مربحًا من الناحية الاقتصادية:
- مشروعات بنية تحتية
- اتفاقيات تجارة حرّة
- أكثر من مليون وظيفة في شركات صينية
- زيادة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي
لكن الجانب الآخر من المعادلة يكشف أن نحو 40% من ديون كمبوديا الخارجية مستحقة للبنوك الصينية، وهي نسبة تُقيد استقلال القرار السياسي في بنوم بنه، خاصة في ما يتعلق بملف بحر الصين الجنوبي.
خريطة جنوب شرق آسيا تتغير بصمت، وكمبوديا أصبحت حلقة مركزية في شبكة النفوذ الصيني، بينما تجد فيتنام نفسها في موقع دفاعي معقّد، محاطة بقواعد صينية من الشرق والجنوب.
وفي ظل هذه التحولات، تتجه فيتنام نحو تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، وربما تجد نفسها مضطرة لتحالفات غير مألوفة، مدفوعة بالخوف من “بديل لا يمكن احتماله”، كما وصفه محللون في هانوي.