قمة لاهاي 2025: الناتو يكافح لاسترضاء ترامب والبقاء موحدا ومستقبله تهدده تناقضات الدفاع الأوروبي
سياقات - يوليو 2025

الخبر

عقد حلف الناتو قمته السنوية في لاهاي يومي 24 و25 يونيو/حزيران 2025، وسط تصاعد التهديد الروسي. وبينما كان الهدف الأساسي هو تعزيز الردع والدفاع الجماعي، فإن قمة لاهاي أيضا مثّلت مناسبة لاسترضاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ظل إجراء البنتاغون مراجعة شاملة لوضع القوات، والتي من المرجح أن تُسفر عن تخفيضات كبيرة في القوات الأمريكية في أوروبا، ونقل عبء الدفاع عن القارة إلى الدول الأوروبية.

الناتو يضاعف معيار الإنفاق في قمة لاهاي ويعزز قاعدة الصناعات الدفاعية استعدادا لحرب روسيا

التحليل: الناتو يضاعف معيار الإنفاق في قمة لاهاي ويعزز قاعدة الصناعات الدفاعية استعدادا لحرب روسيا

يظل مستقبل الناتو مرهونًا بقدرته على التحول من تحالف متمحور حول الولايات المتحدة إلى بنية أمن جماعي متعددة الأقطاب تُعيد تعريف تقاسم الأعباء على أسس أكثر توازنًا. وقد أكدت قمة لاهاي التحديات الجوهرية التي تواجه الحلف، وهي: استمرار الحلف في الاعتماد على واشنطن، وعدم قدرة الأوروبيين على القتال بدون الولايات المتحدة، وتآكل الثقة بين جناحي الحلف، الأوروبي والأمريكي، وغياب خطة واقعية للاستقلال أو تقاسم الأعباء بجدية. وبدلًا من أن تُكرّس القمة توجهًا استراتيجيًا جديدًا، بدت كأنها محاولة لتأجيل الانفجار القادم عبر تجاهل القضايا الأكثر حساسية.

أبرز ما خرجت به قمة لاهاي هو الإعلان الذي التزم فيه الحلفاء باستثمار ما لا يقل عن 5% من ناتجهم المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري بحلول عام 2035، بحيث يُخصص منها 3.5% لمتطلبات الدفاع الأساسية، و1.5% للبنية التحتية الحيوية وضمان الجاهزية المدنية والقدرة على الصمود، فضلا عن تعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية والنصّ على إزالة الحواجز التجارية في مجال الدفاع، وتوسيع التعاون الصناعي العابر للأطلسي، في ظل التجهيز لخوض حرب متوقعة مع روسيا خلال خمس سنوات، وفقا لتصريحات أمين عام الناتو مارك روته. 

خلا البيان الختامي للقمة بشكل لافت من أي إشارة إلى بكين، رغم ورود اسم الصين كمصدر قلق استراتيجي منذ قمة مدريد 2022. ويعكس هذا رغبة واضحة في تركيز النقاش على تقاسم الأعباء المالية وتجنب ملفات لا تزال دول أوروبا منقسمة إزاء كيفية التعامل معها. وبينما تضمن الإعلان التزامات بدعم أوكرانيا صناعيًا وأمنيًا، فإن مسألة عضوية أوكرانيا في الناتو لم تكن ضمن جدول الأعمال، ولم يشر إعلان القمة إلا بشكل ضئيل إلى التهديد الذي تشكله روسيا، وشهد ملف كييف عموما تراجعًا كبيرًا على جدول أعمال القمة، ولم يُدعَ الرئيس زيلينسكي لجلسة القادة. ونتج هذا التراجع عن التحول في المزاج الأمريكي، وتمسك ترامب بخطط إنهاء الحرب، فضلا عن دعوته لإعادة روسيا إلى مجموعة السبع.

بدت القمة وكأنها مصممة لتجنّب إثارة غضب ترامب، والحصول على شهادة رضا منه مقابل تقديم أوروبا لالتزامات مالية باهظة. إذ وضع ترامب نصب عينيه هدفًا أساسيًا هو فرض أجندة أكثر صرامة في تقاسم الأعباء، وتذكير الحلفاء بأن بقاء المظلة الأمنية الأمريكية مرهون بمقابل واضح، وإقناع الرأي العام الأمريكي بأن الولايات المتحدة لم تعد “تدفع نيابة عن الآخرين”. ولتحقيق ذلك، مارس ترامب ضغوطًا مسبقة على القادة الأوروبيين عبر التهديد بأن الدول التي لا تلتزم بالإنفاق المطلوب قد لا تحظى بالدعم الأمريكي حال وقوع تهديد. وقد وُصفت القمة بأنها بمثابة “عرض أحادي الاتجاه”، أُنجز لتفادي صدام علني مع واشنطن، أكثر من تقوية التحالف أو تطوير رؤيته الاستراتيجية.

يُعد التزام 5% من الناتج المحلي الإجمالي خطوة غير مسبوقة، لكنها ستواجه إشكالات كبرى في أوروبا، ففي فرنسا والمملكة المتحدة، قد تتطلب هذه الزيادة تقليص خدمات اجتماعية حساسة، مما يُعزز من فرص صعود الأحزاب الشعبوية، والتي تدعو للسلام مع روسيا. ففي إسبانيا، طلب رئيس الوزراء بيدرو سانشيز إعفاءً خاصا يقصر مشاركة بلاده على نسبة 2.1%، فيما صرّح رئيس الوزراء السلوفاكي بأن بلاده لن تتمكن من تحقيق هدف 5%، ولمّحت بلجيكا إلى أنها ستحذو حذو إسبانيا.

وفي المقابل تنظر دول البلطيق وشرق أوروبا لزيادة الإنفاق العسكري كضرورة وجودية. وفي غياب آلية إلزامية، قد تتحول هذه الوعود إلى أوراق ضغط داخلية على الحكومات دون أثر عملياتي حقيقي. كما أن غياب موازنة واضحة بين متطلبات الجبهة الشرقية للحلف المتمثلة في ردع روسيا، ومتطلبات الجبهة الجنوبية المتمثلة في مكافحة الهجرة والإرهاب يُهدد بتعميق الانقسامات داخل الحلف.

بينما يُفترض أن زيادة الإنفاق الدفاعي ستعزز الردع، فإن الواقع الأوروبي أكثر تعقيدًا. فالتجزئة الصناعية والعسكرية داخل أوروبا، وتضارب المصالح القومية، وغياب التنسيق الصناعي العابر للحدود، كلها تجعل تحويل هذه الأموال إلى قدرة عسكرية فعلية تحديا كبيرا. لقد ركزت معظم الدول الأوروبية على زيادة الميزانيات بدلًا من إصلاح الهياكل وتوحيد المشتريات وتطوير القدرة الصناعية.

وبالتالي اتسم المشهد الدفاعي الأوروبي بتشظٍ مؤسسي وهيكلي واضح، إذ يتوزع التمويل العسكري على نحو ثلاثين مجمعًا صناعيًا محليا منفصلًا، وتُشغّل الجيوش الأوروبية منظومات تسليح متباينة وغير موحدة. وهذا التعدد والتفاوت يُعقّد أي محاولة لنشر قوات مشتركة أو خوض عمليات منسقة. وبهذا المعنى، فإن القدرات العسكرية الأوروبية تبدو في واقعها العملي أقل بكثير من مجموع مكوناتها، وتترك الحلف معتمدًا على القدرات الأمريكية في المجالات العسكرية الحيوية، من النقل الجوي إلى الاستخبارات إلى الذخائر الدقيقة والدفاع الصاروخي.

وحتى مع تبني الناتو لخطط جديدة كخطة “الإنتاج الدفاعي” و”التبني السريع للتكنولوجيا” والتي تنص على تعزيز سرعة تبني الحلفاء للمنتجات التكنولوجية الجديدة خلال 24 شهرًا من تحديد الحاجة إلى اقتناء المنتج ودمجه في القوات المسلحة للحلف، فإن القارة لا تزال عاجزة عن معالجة فجوة “التمكين الاستراتيجي”، أي القدرات اللازمة للقيادة والسيطرة واللوجستيات والاستخبارات، التي ما زالت تعتمد فيها أوروبا على الولايات المتحدة.

لقد أثبتت الحروب الحديثة أن سرعة الإنتاج، والقدرة على التوريد، والمخزون الكافي، باتت عوامل حاسمة في أي صراع طويل الأمد، وهو ما كشف عن هشاشة بنى الحلف الحالية مقارنة بقدرات روسيا المتسارعة، والتي تنتج في ثلاثة أشهر ما ينتجه حلف الناتو بأكمله في عام واحد، ومن المتوقع أن تنتج خلال العام الجاري وحده 1500 دبابة و3000 مركبة مدرعة و200 صاروخ إسكندر، بحسب مارك روته أمين عام الناتو.