الحدث
في خطوة تعكس تصعيداً جديداً في سياسة “الضغط القصوى” ضد طهران، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلغاء الإعفاء السابق منحه عام 2018 لميناء تشابهار الإيراني من العقوبات. وبموجب القرار الذي سيدخل حيّز التنفيذ 29 سبتمبر/أيلول، ستصبح الشركات والأفراد الهنود العاملون في الميناء أو أي أنشطة مرتبطة به عرضة للعقوبات الأميركية وفق “قانون حرية إيران ومكافحة الانتشار”. ويأتي القرار بعد شهر واحد من استضافة البيت الأبيض قمة في 8 أغسطس/آب الماضي جمعت رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بحضور الرئيس الأميركي ترامب، وتضمنت التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق سلام يطوي صفحة ثلاثة عقود من الصراع في ناغورنو كاراباخ، ويفتح الباب أمام مشروع ممر “زنغزور” والذي بات يُعرف بـ”ممر ترامب”، ويُفترض أن يربط أذربيجان بإقليم نخجوان الأذري (ومن ثم إلى تركيا) عبر المرور بجنوب أرمينيا.
التحليل: من تشابهار إلى زنغزور: أميركا تعيد رسم خرائط ممرات النقل الدولية

- يسلط القرار الضوء على سياسة أميركية تستهدف وفق المؤشرات الحالية إخراج إيران من خرائط الربط الإقليمي وممرات النقل الدولي. إذ تأتي المنافسة على ممرات النقل انعكاسًا لصراع أوسع بين القوى الكبرى على تشكيل سلاسل التوريد العالمية. فواشنطن تدعم بدائل تمر عبر تركيا والقوقاز، وبكين تعزز حضورها عبر ميناء جوادر ومبادرة “الحزام والطريق”، بينما تحاول الهند الحفاظ على تشابهار كورقة موازنة، في وقت بات فيه أحد أهم منافذ روسيا إلى الجنوب على المحك. وبالتالي فالخطوات الأمريكية ترسم خريطة المنافسة الجيوسياسية على طرق التجارة والطاقة.
- ومع هذا، فإن القرار الأمريكي لا ينفصل أيضا عن نهج الضغط الأقصى على إيران بهدف إجبار النظام على توقيع اتفاق نووي وفق شروط أمريكية. ويراهن ترامب على أن الضربة العسكرية التي تلقاها النظام الإيراني أرسلت رسالة واضحة أن النظام لم يعد محصنا، ومن ثم فإن تشديد الضغوط الاقتصادية يزيد من مخاطر إثارة عدم استقرار داخلي، ويؤكد أن شبح استهداف تقويض النظام مازال حاضرا.
- يمثل ميناء تشابهار في إقليم سيستان بلوشستان المنفذ الإيراني الوحيد المطل على المحيط الهندي، ويقدم ميزة جيوسياسية كبرى بفضل مياهه العميقة التي تجعله بديلًا عن الموانئ الإيرانية في الخليج المعرّضة لتوترات في مضيق هرمز. كما يشكل الميناء ركيزة أساسية في “ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب” الذي يربط روسيا بالهند عبر إيران، ويوفر لإيران فرصة لتعزيز مكانتها كمركز عبور إقليمي، إضافة إلى إمكانية استقطاب استثمارات في الصناعات البتروكيماوية والتحويلية وتوليد فرص عمل حيوية في بلوشستان. يهدد قرار إلغاء الإعفاء الأميركي بتجميد هذه الخطط التنموية ويكرّس اعتماد طهران المتزايد على الصين وروسيا بعد أن كانت تسعى إلى تنويع شركائها عبر الهند.
- يأتي القرار الأمريكي في ظل انزعاج ترامب من علاقات الهند مع روسيا. إذ تواصل شراء 40٪ من وارداتها النفطية من روسيا بسعر مخفض، وتتمتع بعضوية نشطة في مجموعة “بريكس”، فضلا عن مشاريع الطاقة التي تمر عبر إيران وروسيا، ما يمثّل تعارضا مع مصالح واشنطن الجيوسياسية. ومن هنا جاءت أهمية مشروع “الممر الاقتصادي الهند-الشرق الأوسط-أوروبا“، بوصفه بديلاً جيوسياسيًا لطريق الحرير الصيني، ولممر الشمال الجنوب، إذ يوفر سلسلة توريد بين الهند وأوروبا دون الحاجة للمرور بإيران أو روسيا، وتمنح الهند خيارًا استراتيجيًا بديلا يرسّخ ارتباطها بالغرب.
- بالنسبة لنيودلهي، يمثّل تشابهار منفذًا استراتيجيًا إلى أسواق آسيا الوسطى وأفغانستان مع تجاوز أراضي خصمها اللدود باكستان، فضلًا عن كونه أداة لموازنة النفوذ الصيني عبر ميناء جوادر الباكستاني ضمن مشروع “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني”. وفي 2024، وقّعت شركة “الموانئ الهندية العالمية” عقدًا لعشر سنوات مع هيئة الموانئ الإيرانية لتطوير محطة “الشهيد بهشتي” في ميناء تشابهار. لكن بعد إلغاء الإعفاء الأميركي، باتت الهند أمام معضلة؛ فالمضي في المشروع سيعرضها لعقوبات ويؤثر سلبا على علاقتها مع واشنطن، أما الانسحاب فيعني خسارة ورقة استراتيجية في مواجهة الصين وباكستان، وتراجع قدرتها على تأمين طرق بديلة لإمدادات الطاقة والمعادن النادرة من آسيا الوسطى.
- وفي الشمال، يبرز ممر زانجيزور الذي تبناه ترامب خلال رعايته اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان، باعتباره تهديدًا إضافيا آخر لطهران. فالممر يقوّض الشريان البري الوحيد الذي يربط إيران بأرمينيا، وبالتالي يقطع اتصالها البري مع جورجيا وروسيا وصولًا إلى أوروبا، وهو ما يعني تهميش دور إيران في معادلات جنوب القوقاز. وتتزايد مخاوف طهران من أن تتحول إلى دولة شبه محاصرة يطوّقها نفوذ تركيا وأذربيجان من الشمال، وتحدّها التوترات في الخليج جنوبًا، فيما تُعزل عن شبكات النقل الأوراسية التي تتشكل من جنوب القوقاز إلى آسيا الوسطى.