عقب الحرب الإسرائيلية الإيرانية: اتجاهات جيوسياسية تتشكل في منطقة الشرق 
سياقات - يونيو 2025
تحميل الإصدار

الخبر:

حذر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، “إسرائيل” من تنفيذ مزيد من الهجمات على إيران، وذلك بعد ساعات من إعلانه وقف إطلاق النار بين الطرفين في الحرب الإسرائيلية الإيرانية. واستخدم الرئيس الأمريكي لفظاً نابياً أثناء انتقاده للطرفين، وذلك بعدما تبادل الجانبان الاتهامات بخرق الهدنة التي تم التوصل إليها بوساطة الولايات المتحدة وقطر فجر الثلاثاء 24 يونيو/حزيران. لاحقا، وفي أول تعليق له، أعلن المرشد الأعلى بإيران، علي خامنئي، يوم السبت 28 يونيو/حزيران، انتصار بلاده على إسرائيل وأمريكا وتوجيه “صفعة قوية” للأخيرة عبر ضربة قاعدة العديد في قطر. وأثار هذا الإعلان غضب ترامب، والذي بدوره اتهم خامنئي بالكذب، وأعلن تراجعه عن بحث إمكانية رفع العقوبات عن إيران.

الحرب الإسرائيلية الإيرانية توقفت لكنّ تداعياتها تظل متفاعلة

التحليل: الحرب الإسرائيلية الإيرانية توقفت لكنّ تداعياتها تظل متفاعلة

على الرغم من أن وقف إطلاق النار ما زال هشا، وأن اتفاقا نهائيا بين إيران والولايات المتحدة بخصوص البرنامج النووي وقضايا أخرى ما زال بعيد المنال، فإن جولة التصعيد العسكري التي انطلقت يوم 13 يونيو ستلقي بظلال كثيفة على المنطقة، نتوقع أن تشكل الاتجاهات الجيوسياسية فيها لفترة قادمة. ويمكن الإشارة إلى أبرز هذه الاتجاهات على النحو التالي

أولا: الولايات المتحدة لا يمكنها التخلي عن دورها في المنطقة دون الإضرار بمصالحها.

فقد حاولت إدارات أمريكية متعاقبة منذ إدارة أوباما الثانية تخفيف الالتزام تجاه منطقة الشرق في ظل تعقد صراعات المنطقة وتراجع الآمال الأمريكية حول حدود قدرة واشنطن على إعادة تشكيل المنطقة من خلال تغيير أنظمة الحكم فيها، بالإضافة إلى حاجة واشنطن لتوجيه مواردها إلى منطقة الصراع الدولي الرئيسي في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ.

حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تحقيق معادلة التخلي عن الالتزامات مع الاحتفاظ بالنفوذ والدفاع عن المصالح، لكنّ حصيلة أكثر من عقد من هذا النهج تؤكد أنه ليس من الممكن الدفاع عن المصالح دون مواصلة قدر غير قليل من الالتزام تجاه المنطقة. ومن ثم، فإن الولايات المتحدة ما زالت، وستظل على الأقل في الأجل القريب، غارقة في شؤون المنطقة، إلى حد أن قضايا المنطقة ما زالت تحتفظ بتأثير ملموس في تشكيل توجهات الناخب الأمريكي والرأي العام الداخلي.

ثانيا: من المرجح أن يتعزز الاتجاه الأول أيضا نتيجة أن الحرب على إيران أظهرت حدود القدرات العسكرية الإسرائيلية، الهجومية والدفاعية، مما جعل التدخل الأمريكي أساسيا للدفاع عن “إسرائيل” ولتوجيه ضربات استراتيجية لإيران.

أي إن الالتزام الأمريكي التاريخي بضمان أمن وتفوق “إسرائيل” في المنطقة لن يتحقق فقط بإمدادات عسكرية واسعة، وإنما يتطلب أيضا استمرار التواجد الأمريكي المباشر.

ثالثا: من المرجح أن تواصل دول الخليج نهجها الراهن تجاه التعامل مع إيران، والذي يتضمن احتواء التوترات وتطوير التعاون، من جهة، وفي نفس الوقت تعزيز الشراكات الدفاعية مع الولايات المتحدة،

خاصة بعدما تجاوزت إيـران، ولو رمزيا، خطا أحمر يتمثل في استهداف القواعد الأمريكية في منطقة الخليج. فعلى الرغم من إضعاف إيران وتعرضها لضربات إسرائيلية مؤلمة، فإن طهران أظهرت قدرتها على تهديد جيرانها ومن ثم احتفظت بقدر من الردع يبقي دول الخليج علي سياسة الحياد. ومن جهة أخرى، فإن الحرب القصيرة أظهرت أن “إسرائيل” تحتاج إلى قدر من التدخل الأميركي، وهو ما يعني أن دول الخليج باتت أكثر اقتناعا أن الولايات المتحدة، وليست “إسرائيل” هي الشريك الدفاعي في مواجهة تهديدات إيران.

رابعا: لا يمثل وقف إطلاق النار نهاية المواجهة بين “إسرائيل” وإيران. فقد سبق أن أشرنا إلى أن الهجوم العسكري الإسرائيلي هو على الأرجح بداية لعملية مستمرة تستهدف تغيير النظام الإيراني.

استهدفت العملية العسكرية أولا إضعاف قدرات إيران الصاروخية وتعطيل التهديد النووي، بالإضافة إلى توجيه ضربات لحجر الزاوية الذي يستند إيه نظام الجمهورية الإسلامية وهو الحرس الثوري وقيادته العسكرية المقربة من خامنئي. وإذا كان من غير المؤكد بعد تأثير اغتيال قيادات كبيرة في الحرس على احتمالات زيادة نفوذ الجيش، إلا أن هذه الاغتيالات التي كشفت اختراقا واسعا وتفوقا استخباريا إسرائيليا تستهدف أيضا تحريض معارضي النظام من أجل زيادة تحديه بعد أن ظهر في أضعف حالاته. ولن يكون من المستبعد أن يتبع وقف الحرب المباشرة عمليات تخريبية منظمة لمواصلة إضعاف النظام من داخله.

خامسا: الحرب على إيران مجرد موجة جديدة من “تأثير الفراشة” الناتج عن طوفان الأقصى. أي إن المنطقة برمتها ما زالت تختبر تفاعلات واسعة ومتعددة الأبعاد، وهو ما يجعل الاستقرار الإقليمي عموما مسألة بعيدة المنال في المستقبل القريب.

ما زالت الحرب في غزة مستمرة، وما زالت احتمالات تعرض الحوثيين في اليمن لهجمات إسرائيلية مرجحة، وما زالت سوريا مفتوحة على احتمالات متعددة. من جهة أخرى، فإن السلوك الإسرائيلي العدواني في المنطقة والاستناد لغرور القوة العسكرية سيثير قلق دول أخرى في الإقليم، وسيدفع بعضها لمراجعة استراتيجياتها العسكرية والدفاعية، ومناعتها الأمنية ضد العمليات الاستخبارية، كما أنه سيدفع بعضها لتعزيز تحالفاتها لموازنة مساعي الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة. تتسم هذه الديناميكية بغموض كبير من حيث مآلاتها المحتملة على توازنات المنطقة وتحالفاتها، في ظل استمرار التباينات بين القوى الأساسية، تركيا والسعودية وإيـران ومصر، لكن ليس من المتوقع أن يظل هيكل الأمن والتحالفات في منطقة الشرق على حاله السابق قبل الطوفان بأي حال من الأحوال.