الإمارات.. إعادة تموضع استراتيجي في باب المندب والقرن الأفريقي
سياقات - يونيو 2021
تحميل الإصدار

رأي وخلاصة السياق

· بناء دولة الإمارات لقاعدة عسكرية في جزيرة بريم (ميون) رغم انسحابها عسكريا من حرب اليمن قبل عامين، يعني أن هناك هدفاً استراتيجياً طويل المدى لتأسيس وجود طويل المدى في منطقة باب المندب والقرن الإفريقي، لا يتعلق بالحرب وإنما بحركة الشحن والملاحة في باب المندب، واحتواء النفوذ الساحلي لإيران ووكلائها الحوثيين خاصة في الحديدة. 
· فقد قلّصت الامارات من تواجدها العسكري الاستراتيجي في القرن الأفريقي خلال الشهور القليلة الماضية، حين انسحبت جزئيا من قاعدة عصب في إريتريا وحين حوّلت مشروع قاعدة بربرة في أرض الصومال إلى مشروع مدني، وبدلاً من ذلك قررت الإمارات تعزيز تواجدها على السواحل والجزر اليمنية: جزيرتي سقطرى وبريم وميناء المخا. 
· عملية إعادة التموضع هذه تعكس تحولاً تكتيكياً لسياسة الإمارات من العمل كقوة استكشافية موجهة لإظهار القوة وبسط النفوذ في المنطقة، إلى قوة رد فعل ومراقبة تركز على حماية المصالح، مع اهتمام خاص بتأمين الممرات المائية البحرية للطاقة والتجارة.
· لكنّ تواجداً استراتيجياً بهذا الاتساع يبدو أكبر من قدرة الإمارات منفردة على ضمان استمراريته. لذلك، تعمل أبوظبي من خلال شبكة وكلاء محليين مثل المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات اللواء طارق صالح، ومن خلال نفوذ حلفاء إقليميين مثل السعودية؛ بالإضافة إلى استدعاء نفوذ “إسرائيل” إلى المنطقة تحت إغراء العمل ضد النفوذ الإيراني وتعزيز منظومة ردعها في الإقليم؛ وتراهن الإمارات على قدرتها في تسويق دورها الأمني لدى الولايات المتحدة كحليف موثوق يمكن الاعتماد عليه في مواجهة أنشطة إيران في باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر. 

الحدث

كشفت صور أقمار صناعية من شركة “بلانيت لابز”، 25 أيار/مايو الماضي، عن استئناف دولة الإمارات العربية المتحدة أعمال بناء قاعدة جوية عسكرية في جزيرة بريم الاستراتيجية (معروفة أيضا باسم جزيرة ميون)، قرب سواحل اليمن المطلة على مضيق باب المندب، والتي استعادتها القوات الإماراتية والقوات المتحالفة معها من الحوثيين عام 2015. يرجع مشروع البناء إلى عام 2016، حيث تضمن حينها بناء مدرج يزيد طوله عن 3 كيلومترات، مما يسمح باستخدامه من قبل القاذفات الثقيلة. وحين أعلنت الإمارات انسحابها عسكريا من اليمن عام 2019، قامت بتفكيك بعض منشآتها العسكرية في قاعدتها بميناء عصب الإريتري التي مثلت قاعدة عملياتها إلى اليمن. لكنّ الصور الحديثة لجزيرة بريم، في 11 أبريل/نيسان الماضي، أظهرت شاحنات ومعدات بناء مدرج بطول نحو 1.9 كيلومتر يمكن أن يستوعب طائرات هجومية وطائرات مراقبة وطائرات نقل. وبحلول نهاية مايو/أيار بدا هذا العمل مكتملا تقريبا باستثناء بعض اللمسات الأخيرة اللازمة لبدء التشغيل الفعلي وفق ما أظهره القمر الصناعي (سانتينال-2). كما تم تشييد 3 حظائر للطائرات جنوب المدرج مباشرة، يرجح أنها حظائر محمولة تم نقلها من قاعدة عصب. أيضًا أظهرت الصور اكتمال أعمال البناء الخارجي في موقع إلكترونيات مواجه للشمال على تل يطل على المطار. 

صورة الأقمار الصناعية لمدرج الطائرات والمنشآت الجارية في القاعدة الجوية في جزيرة بريم. المصدر: وكالة أسوشيتد برس

في المقابل، نفى التحالف السعودي الإماراتي باليمن وجود قوات إماراتية في جزيرتي سقطرى وميون باليمن. وأوضح أن التجهيزات الموجودة في جزيرة ميون تابعة لقيادة التحالف، وهدفها تمكين القوات من التصدي لمليشيات الحوثي وتأمين الملاحة البحرية في المنطقة. وأضاف أن الجهد الإماراتي الحالي يتركز مع قوات التحالف في التصدي جوا للمليشيات الحوثية بالدفاع عن مأرب. لكنّ مسؤولين في حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، قالوا إن السفن الإماراتية نقلت أسلحة ومعدات عسكرية وقوات إلى جزيرة ميون خلال الشهرين الماضيين، مؤكدين توتر العلاقة بين الإمارات والرئيس هادي على خلفية رفض الأخير طلب أبوظبي توقيع اتفاقية إيجار للجزيرة لمدة 20 عاما.

الإمارات: حدود القوة في الانسحاب وإعادة التموضع 

قلّص الإماراتيون – من جهة – تواجدهم العسكري الاستراتيجي في القرن الأفريقي خلال الشهور القليلة الماضية، حين انسحبوا جزئيا من عصب في إريتريا دون التخلي عن عقد الإيجار 30 عاما، وقاموا بالفعل بتفكيك منشآت عسكرية ونقل آليات ومعدات كانت فيها إلى ثلاث وجهات: قاعدة سيدي براني المصرية قرب الحدود مع ليبيا، ميناء الفجيرة في الإمارات على خليج عمان، وجزيرة ميون اليمنية. بالإضافة إلى ذلك، تحول مشروع قاعدة بربرة في أرض الصومال إلى مشروع مدني بعقد إيجار مدته 20 عاما لمصلحة موانئ دبي العالمية. وبدلاً من ذلك قررت الإمارات فيما يبدو تعزيز تواجدها على السواحل والجزر اليمنية: جزيرتي سقطرى وبريم وميناء المخا

تعكس عملية إعادة التموضع هذه تحولا تكتيكيا لسياسة دولة الإمارات من العمل كقوة استكشافية موجهة لإظهار القوة وبسط النفوذ في المنطقة، إلى قوة رد فعل ومراقبة تركز على حماية المصالح، مع اهتمام خاص بتأمين الممرات المائية البحرية للطاقة والتجارة. مفهوم الحماية يستند إلى تقدير أبوظبي أنها نجحت في تحقيق مكاسب جيوسياسية خلال السنوات الماضية، حيث تمكنت من بناء نفوذ خارجي من خلال شبكة حلفاء ووكلاء. مع التغيرات الإقليمية المتسارعة، تحول هدف الإمارات، على الأقل تكتيكيا، إلى حماية هذا النفوذ والحفاظ على مكتسباتها حتى يتضح ميزان القوة الإقليمي الآخذ في التشكل مؤخرا. 

من وجهة نظر المراقبين، يمثل إعادة التموضع الإماراتي خطوة متوقعة بعد أن بالغت أبوظبي في تقدير إمكاناتها لإسقاط القوة خارج حدودها. يمكن الإشارة بوضوح إلى الهجمات التي استهدفت منشآت أرامكو السعودية عام 2019 كنقطة تحول رئيسية في تقييم الإمارات للمخاطر التي يمكن أن تلحق بها. واستند التمدد الإماراتي إلى قوة الدفع التي اكتسبتها عقب نجاح الانقلاب في مصر، ثم من خلال التحالف الوثيق مع السعودية ومصر الذي اتسم بقدر كبير من الاندفاع في محاولة إعادة تشكيل المنطقة وفق رؤية هذه الدول الثلاث، وهو التحالف الذي تلقى دعما واسعا من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب و”إسرائيل”. الآن، بعد رحيل ترامب، اتفاق إيران المرتقب مع القوى الكبرى، اتفاق العلا الخليجي، تغير موازين القوى في ليبيا مع التدخل التركي، وأخيرا تهدئة التوترات المصرية التركية، كل هذا فرض على أبوظبي إعادة تقييم تموضعها الإقليمي، وحدود ما يمكنها تحقيقه، خاصة وأن تحالفها الصاعد مع “إسرائيل” لم يتحول بعد لمحور إقليمي واضح.

جزر وسواحل اليمن كساحة صراع جيوسياسي

نظرا لموقع جزيرة بريم (ميون) الاستراتيجي، احتفظ بها البريطانيون حتى مغادرتهم اليمن عام 1967. ثم قام الاتحاد السوفيتي المتحالف مع حكومة جنوب اليمن -آنذاك- بتحديث منشآت جزيرة ميون البحرية، واستخدامها كقاعدة تسمح لمن يسيطر عليها بإبراز قوته في مضيق باب المندب، كما أنها توفر قاعدة لأي عمليات في البحر الأحمر وخليج عدن وشرق أفريقيا.

لذلك، تتطلع أبوظبي إلى تعزيز قدرتها على مراقبة المضيق، وبالتالي منع تسليم الأسلحة والمواد الإيرانية إلى الحوثيين في اليمن، وفي المستقبل إنشاء قاعدة عملياتية جديدة تمكنها من شن ضربات جوية. كما تخطط الإمارات لتركيب معدات الحرب الإلكترونية في القاعدة، والتي ستضم طائرات نقل C130 وطائرات مقاتلة، وطائرات بدون طيار صينية الصنع كان مقرها سابقًا في قاعدة عصب، مما سيحول الجزيرة إلى مركز استخبارات جديد.

خريطة توضح مواقع جزر سقطرى (Socotra)، ميون (Perim) وحنيش (Hanish)، بالإضافة إلى موانئ عدن والمخا (Mocha) في اليمن، عصب (Asab) في إريتريا، وبربرة (Berbera) في أرض الصومال. المصدر: PRISM-National Defense University

وجدير بالذكر أن الوضع في ميون مشابه لما حدث في جزيرة يمنية استراتيجية أخرى، هي سقطرى، التي مثّلت نقطة التحوّل الأولى في إعادة التموضع الإماراتي حول باب المندب. فبعد اتفاقات أبراهام، تخطط الإمارات و”إسرائيل” للتعاون الاستخباراتي في الجزيرة للسيطرة على الأنشطة الإيرانية في غرب المحيط الهندي والبحر الأحمر. ورحب المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، والذي استولى على سقطرى منتصف عام 2020، بالتطبيع الدبلوماسي الإماراتي “الإسرائيلي”. لكن حكومة هادي لم تتخل عن حقها في السيطرة الكاملة على مطار حديبو في الجزيرة، بينما تحافظ القوات السعودية على وجود في مكان قريب عليها.

في المخا، المدينة اليمنية الساحلية القريبة من باب المندب (محافظة تعز)، تدعم الإمارات قوات الساحل الغربي بقيادة اللواء طارق صالح، الرئيس السابق للحرس الرئاسي وابن شقيق الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وتتألف هذه القوات المناهضة للحوثيين من مقاومة تهامة وكتائب العمالقة وحرس الجمهورية برئاسة صالح. في مارس 2021، أنشأ طارق صالح في المخا المكتب السياسي للمقاومة الوطنية، الجناح السياسي لحرس الجمهورية، متذرعا بـ “الضرورة الوطنية” لـ “الدفاع عن الجمهورية”. من اللافت أن البيان التأسيسي أشار إلى “أهمية حماية المياه الإقليمية والممرات المائية، ورفض أي تهديد للتجارة العالمية من خلال باب المندب”، وهو الأمر الذي يعكس أهداف أبوظبي الجيوسياسية في المنطقة.

لدى إيران كذلك مصالح في هذه المنطقة. فرغبة الحوثيين في السيطرة على الساحل الغربي لليمن، وخاصة ميناء الحديدة، مدفوعة جزئيًا برغبة إيران في السيطرة على ممرات الشحن في البحر الأحمر. إيران، التي دعمت الحوثيين طوال الحرب، تريد الوصول إلى البوابة الجنوبية للمنطقة العربية. ولهذه الغاية، تأمل إيران في مساعدة الحوثيين على استعادة جزر حنيش التي سيطرت عليها القوات التي تقودها السعودية.