الخبر
قدّم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان “وثيقة رؤية العالم التركي” (Turkic World Vision Document) باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم في فعالية بالعاصمة أنقرة يوم 15 ديسمبر/كانون أول 2025، بالتزامن مع الاحتفاء بـ “اليوم العالمي لعائلة اللغة التركية” الذي أعلنته اليونسكو. تتكون الوثيقة من 198 صفحة و14 قسمًا، وتهدف إلى مأسسة التعاون متعدد الأبعاد، وتعميق الاندماج في مجالات الطاقة، والتجارة، والنقل، والتكنولوجيا، والثقافة، وتعزيز القدرة على التحرك المشترك عالميًا.
التحليل: نهضة العالم التركي… أنقرة تراهن على اللوجستيات والطاقة والرقمنة
● على المستوى الجيوسياسي، نفهم من الوثيقة أن الرئيس التركي يطمح إلى الانتقال بـ”العالم التركي” من التعاون الرمزي إلى تأسيس مركز جيوسياسي دولي يستند إلى قدرةٍ تنظيمية على العمل المشترك عالميًا، من خلال بلورة تعاونٍ متعدد الأبعاد بين الدول التركية، وتعزيز القدرة المؤسسية لمنظمة الدول التركية، وبناء آليات تنسيق في السياسة الخارجية، والأمن، وتقوية الاندماج الاقتصادي والتجاري، وتحويله إلى مسار مؤسسي. ومع هذا؛ تظل الوثيقة إطارًا رؤيويًا/حزبيًا، يتطلب تحوّلها إلى التزامات قرارات حكومية وتوافقًا داخل المنظمة.
● تظهر داخل الوثيقة ملفات عالية الحساسية جيوسياسيا، مثل الدفع نحو رفع الاعتراف الدولي بـ”جمهورية شمال قبرص التركية” في سياق المنظومة التركية، وهو بندٌ يختبر حدود الإجماع داخل الشراكة التركية الأوسع، ويواجه بتحديات تتعلق بعلاقة هذه الدول مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لذا، فإن هذه المسألة قد تقيّد مسارات التكامل الأخرى إذا وضعت كشرط أساسي.
● في الأمن؛ تتضمن الوثيقة أهدافًا مثل إنشاء مركز مشترك لمكافحة الإرهاب، وتعزيز مسارات الأمن السيبراني، مع إبراز أن الثقافة واللغة والتاريخ والفنون ليست هامشًا، بل رافعة لتثبيت الهوية الجامعة وتوسيع البرامج التعليمية والشبابية. وفي الجوانب الاقتصادية، تطرح الوثيقة أهدافًا قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى لتقوية الاندماج الاقتصادي وجعله قابلاً للقياس. إذ تستهدف أنقرة رفع التجارة سنويا مع الدول التركية إلى 60 مليار دولار في المدى المتوسط و100 مليار دولار في المدى الطويل، عبر تحسين بيئة الاستثمار والسعي نحو سوق مشتركة، وبناء منصات تجارة إلكترونية مشتركة وآليات سوق/تحكيم تُخفّض كلفة التعاملات والنزاعات.
● وعند الأخذ في الاعتبار أن تجارة تركيا مع دول المنظمة خلال خمس سنوات (2020–2024) بلغت إجمالي 62.6 مليار دولار (36.6 صادرات تركية، وواردات 26 مليار). فإن هدف 100 مليار سنويًا ليس مجرد زيادة تدريجية، بل قفزة واسعة تستلزم إجراءات عملية جادة، مثل: توسعًا كبيرًا في سلاسل الإمداد، والاستثمارات العابرة للحدود، وتخفيض كلفة العبور والتمويل والتأمين، مع القدرة على تحييد الاحتكاكات السياسية التي قد تعيق تطور العلاقات مثل التعرض لعقوبات غربية أو ضغوط من القوى الكبرى (الولايات المتحدة والصين وروسيا) للحد من بعض المشروعات التي تهدد مصالحها الجيوسياسية.
● ولذلك؛ تذهب الوثيقة أبعد من التجارة إلى أدوات تمويل مستقلة، إذ تطرح إنشاء بنك تنمية/إعمار للعالم التركي، وتبني العملة الرقمية التركية المشتركة Türkcoin لتسهيل المدفوعات، فضلًا عن أهداف طاقوية كبيرة تشمل مشروع خط الغاز عبر قزوين، وإنشاء وكالة/اتحاد طاقة، وتطوير ممرات طاقة وبورصات تجارة طاقة. ويدل إدراج خطط اتحاد الطاقة وخطوط نقلها على مستهدف وضع دول “العالم التركي” ضمن لعبة جيوسياسية أكبر، وهي تنويع إمدادات أوروبا وبناء دور تركيا كعقدة عبور في سوق الطاقة الدولية.
● بالإضافة إلى ذلك؛ يؤكد الرئيس التركي على هدف دمج ممرات النقل باعتبار ذلك ضرورة لتسريع تدفق التجارة، وخاصة: الممر الأوسط (الصين/كازاخستان/بحر قزوين/أذربيجان/جورجيا/تركيا)، وممر باكو–ناختشيفان، والخطوط العابرة لبحر قزوين (Trans-Caspian). ولا يعد هذا الأمر مجرد تفصيل تقني؛ بل هو استثمار جيوسياسي مقصود من قبل تركيا التي تولي أهمية كبيرة لوضع البلاد في قلب طرق التجارة العالمية الجديدة. وتقدم أنقرة الممر الأوسط كبديل نقل متعدد الوسائط عبر قزوين، مع اعتماد موانئ مثل باكو/ألات (أذربيجان)، وأكتاو/كورك (كازاخستان)، وتركمنباشي (تركمانستان)، ضمن عبور قزوين، خاصة وأنه يتكامل مع مشروع الربط بين تركيا وأذربيجان عبر ممر زنغزور. كما أن الزخم العالمي المرتبط بمخاطر الأمن في البحر الأحمر، والقيود الغربية على المسارات الروسية، يجعل هذا الرهان التركي أكثر واقعية.
● في قمة منظمة الدول التركية التي عُقدت في إسطنبول في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 اعتمد رؤساء الدول وثيقة “رؤية العالم التركي 2040” بوصفها وثيقة استراتيجية للتعاون المستقبلي داخل العالم التركي، عبر طيف واسع من المجالات (السياسة الخارجية والأمن، الاقتصاد والتجارة، النقل والاتصال، الرقمنة، الطاقة، والثقافة والتعليم). أما “وثيقة رؤية العالم التركي” التي أطلقها حزب العدالة والتنمية في أنقرة فتتقاطع مع رؤية 2040 في كونها تتحرك على المحاور نفسها تقريبًا، لكنها تقدّمها بصيغة أقرب إلى برنامج تفصيلي/تشغيلي.
● ومن ثم، فإن رؤية 2040 هي الإطار الاستراتيجي الأعلى المتفق عليه بين الدول، بينما وثيقة الحزب تُحاول ترجمة الإطار إلى أدوات ومشروعات قابلة للقياس. مع بقاء نقطة الفصل الجوهرية أن وثيقة الحزب غير مُلزِمة للدول الأخرى ولا تتحول إلى التزام مؤسسي إلا إذا التقطتها المنظمة وصدّرتها في قرارات/خطط تنفيذية مشتركة.
● ولذلك؛ فإن ثمة مؤشرات ستكون محل مراقبة الفترة القادمة لتحديد وتيرة تطور مسيرة التكامل وحدودها. أبرزها: (1) اتفاقات تشغيلية على العبور عبر قزوين وتوحيد الإجراءات الجمركية؛ (2) إطلاق مؤسسي فعلي لبنك أو منصة تمويل أو تسوية مدفوعات؛ (3) أي ترجمة رسمية من منظمة الدول التركية لهذه البنود إلى قرارات تنفيذية؛ مقابل مؤشرات تعثر أو تباين أولويات الشركاء.
