آفاق التطبيع التركي الأرميني جنوب القوقاز
سياقات - يوليو 2025
تحميل الإصدار

الخبر

جاءت زيارة رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، نهاية يونيو/حزيران 2025 إلى إسطنبول بعد ثلاثة عقود من القطيعة والتوتر بين البلدين، لكنها لم تكن لحظة مفاجئة بقدر ما كانت ذروة مسار طويل من التحولات في الجغرافيا السياسية والأولويات الاستراتيجية، فرضته نتائج حرب 2020 في ناغورنو كاراباخ، وتغير خريطة النفوذ جنوب القوقاز بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وما واكب ذلك من تصاعد أهمية ممرات التجارة بين آسيا وأوروبا عبر جنوب القوقاز. وسبقت الزيارة سلسلة من الخطوات الرمزية والعملية خلال آخر أربع سنوات، أبرزها تعيين مبعوثين خاصين، وفتح المجال الجوي، وتشغيل رحلات تجارية.

آفاق التطبيع التركي الأرميني جنوب القوقاز

آفاق التطبيع التركي الأرميني جنوب القوقاز

تشهد اللحظة الراهنة التقاء الضعف الأرميني الناتج عن الهزيمة العسكرية أمام أذربيجان وتراجع نفوذ الحليف الروسي في جنوب القوقاز على وقع تداعيات حرب أوكرانيا، في مقابل تحسن الموقف الجيوسياسي التركي أوروبيا على وقع الحاجة لتنشيط التحالف بين دول القارة وأنقرة في مواجهة التهديد الروسي وتوجه الولايات المتحدة لفك الارتباط مع أوروبا. بالإضافة لذلك؛ فإن التغيير في سوريا ساهم في تعزيز موقف تركيا على حساب روسيا في منطقة الشرق، وفتح المجال أيضا لتراجع إيران، حليف أرمينيا التقليدي، إقليميا، مقابل دور جديد لأذربيجان كوسيط مهم في سوريا.

قد لا يعبّر التقارب الحالي عن مصالحة تاريخية وثقافية بين تركيا وأرمينيا، لكنّه يُجسّد تَكَيُّفًا استراتيجيا مع تحولات الجغرافيا السياسية وتغير الاصطفافات الدولية. ومع أن مسار التطبيع لا يخلو من اشتراطات متبادلة وتعقيدات، فإن طبيعة الخطوات الصغيرة مثل فتح الحدود تدريجيًا وتوسيع الرحلات الجوية واستئناف التبادلات التجارية قد تفضي إلى مشاركة إقليمية أوسع في شبكات النقل والتكامل الاقتصادي. أما على المدى الأبعد، فإن اكتمال التطبيع، وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة، وتطوير آليات تنسيق أمنية واقتصادية، قد يُعيد تشكيل المعادلة الجيوسياسية جنوب القوقاز، ويمنح أنقرة نفوذًا مضاعفًا في خاصرة روسيا، ويمنح يريفان فرصة نادرة للتحرر من العزلة والانكفاء.

من الجانب التركي؛ حملت العلاقة تاريخيا مع أرمينيا قيدا مزدوجًا. تمثل الأول في اتهامات الإبادة الجماعية ضد الأرمن التي تلاحقها في المنتديات الغربية، وهي مسألة طالما قيّدت تطور العلاقة بين الجانبين. لكنّ القيادة الأرمينية، في ظل التراجع الجيوسياسي الراهن، باتت تُدرك أن استمرار التشبث بالرموز القومية والتاريخية، كالدستور الذي يشير إلى أن كاراباخ جزء من أرمينيا، أو سردية “أرمينيا التاريخية” التي تضم أجزاء من تركيا، لم يعد يُنتج سوى العزلة والخسارة. من هنا جاءت تصريحات باشينيان أن الاعتراف بالإبادة الجماعية لم تعد هدفًا في السياسة الخارجية لبلاده، فضلا عن الدعوة لتجاوز الرموز القومية كجبل أرارات (جبل أغري) الذي يقع أقصى شرق تركيا قرب الحدود الأرمينية، ويُعد رمزًا قوميًّا لدى الأرمن ويظهر على شعار دولتهم.

بينما تمثل القيد الثاني في التحالف العضوي التركي مع أذربيجان والذي لا يتيح لأنقرة التحرك تجاه أرمينيا مع تجاهل مصالح باكو الأساسية. ولهذا؛ حين سعت تركيا لتطبيع العلاقات مع أرمينيا عام 2009، اصطدمت بتحفظات أذرية قوية ربطت التطبيع باستعادة إقليم كارباراخ. لكنّ حرب كاراباخ في 2020، ثم الفقرة الأخيرة منها في عام 2023، غيّرت المعادلة. فاستعادة أذربيجان لأراضيها نزعت عقبة أساسية أمام تطبيع علاقات تركيا وأرمينيا، وأطلقت مسارًا دبلوماسيًا يسمح بتحقيق هدف تركيا الأهم: ربط أراضيها بأذربيجان وآسيا الوسطى برًّا عبر ممر زنغزور، وتعزيز نفوذها في الممر الأوسط الذي يتجاوز إيران وروسيا ليربط بين الصين وأوروبا.

أي إن تركيا اليوم ترى في أرمينيا منفذًا بريا، لا عبئًا تاريخيًا. ووفق هذه الرؤية، فإن إعادة فتح الحدود المشتركة البالغ طولها نحو 311 كيلو مترا ليس فقط ضرورة جيوسياسية لنقل الطاقة والبضائع إلى آسيا، بل وسيلة لتطوير المناطق الشرقية الفقيرة في تركيا، ووسيلة لتثبيت مكانتها كوسيط إقليمي يتجاوز روسيا في جنوب القوقاز.

بالنسبة لأرمينيا، تمثل زيارة باشينيان إلى تركيا لحظة اضطرار استراتيجي فرضته سلسلة من الخسائر الجيوسياسية والعسكرية. فبعد خسارة السيطرة على ناغورنو كاراباخ نهائيًا عام 2023، وتدهور العلاقة مع روسيا خلال آخر سنتين بما في ذلك تجميد عضوية أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وانسداد طرق التوريد من جورجيا بعد توتر علاقات تبليسي مع الغرب، وتهديد الحرب في إيران، وجدت أرمينيا نفسها معزولة فعليًا، دون منفذ بحري أو حدود مفتوحة سوى مع إيران، المشتعلة هي الأخرى. في هذا السياق، أصبح التطبيع مع تركيا ضرورة؛ فعبر الحدود التركية ستتمكن يريفان من فك الحصار الاقتصادي، وربط نفسها بممرات التجارة، واستعادة بعض التوازن الجيوسياسي عبر تقليص الاعتماد الحصري على روسيا، وربما استخدام العلاقة مع أنقرة لكبح جماح باكو.

رغم أن المسار الحالي للتطبيع يُقدَّم كمسار ثنائي بين أنقرة ويريفان، إلا أن أذربيجان تظل فاعلًا أساسيًا فيه؛ فلا تزال تركيا تشترط إبرام معاهدة سلام بين أرمينيا وأذربيجان لفتح الحدود مع أرمينيا. كما أن مشروع “ممر زنغور”، الذي تطالب به باكو للربط بين أذربيجان وجيب ناختشيفان عبر أراضي أرمينيا، يشكّل عنصر ضغط دائم على القرار الأرمني.

كما ترفض باكو توقيع اتفاق سلام دون تعديل الدستور الأرميني الذي يعتبر أن إقليم كاراباخ جزءً من أرمينيا، لأن ذلك سيُبقي احتمالية المطالبة الأرمينية بالإقليم قائمة مستقبلا. وتُقر أرمينيا بأن هذا البند قد عفا عليه الزمن ورمزي، لكنها تقول إن إزالته ستتطلب استفتاءً، وهو ما قد يستغرق عامين على الأرجح. ويبدو أن باشينيان مستعد لذلك، لكن حسابات الداخل الأرمني، والمخاوف من المناورات الأذرية، تُبطئ التنفيذ.

كانت روسيا طوال ثلاثة عقود هي الضامن الأساسي للأمن الأرميني، والمُمسك بالتوازن بين باكو ويريفان. لكنّ حرب أوكرانيا سحبت من موسكو قدرتها على التدخل، ودفعت أرمينيا للبحث عن بدائل بعد أن اهتزت بعنف ثقة يريفان في مظلة الحماية الروسية. ورغم أن الكرملين لا يزال يسعى للحفاظ على نفوذه في جنوب القوقاز، فإن التطبيع الأرميني التركي يُمثّل تحديًا حقيقيًا لهذا الدور؛ فكل خطوة تُعيد دمج أرمينيا في شبكة إقليمية تتقاطع مع تركيا، وتُدار بمعزل عن روسيا، تُقوّض من نفوذ الأخيرة في القوقاز. ومع الدعم الغربي الممنهج والمتزايد لأرمينيا، يبدو أن يريفان تمضي بثبات نحو إعادة تموضع استراتيجي بعيد عن محور موسكو.