من غزة إلى كشمير: صراع الهند وباكستان ينتقل إلى قلب منطقة الشرق
مآلات - سبتمبر 2025
تحميل الإصدار

ملخص

• مع استمرار تداعيات حرب غزة الواسعة، واتساع ارتداداتها، لم يعد الأمن الإقليمي حبيس جغرافيا منطقة الشرق، بل تزايدت المؤشرات على تشابكه مع التوازنات الجيوسياسية في جنوب آسيا.

• تعزز باكستان تحالفها الدفاعي مع السعودية لتأمين موارد الطاقة والدعم الاقتصادي مقابل مظلة ردع نووية، بينما تتوسع الهند غربًا عبر شراكات مع “إسرائيل” وأرمينيا واليونان. أي إن ثمة انتقال تدريجي للتنافس الهندي–الباكستاني إلى قلب الخليج وشرق المتوسط.

• صعود تركيا كثالث أكبر مزوّد للأسلحة لباكستان، أثار استنفارًا واسعًا في نيودلهي وعمّق قناعتها بأن أنقرة باتت طرفا فاعلا في الصراع مع باكستان، وأن التحالف التركي–الباكستاني بات جزءًا من اصطفاف جيوسياسي جديد يهدد التوازن الإقليمي في جنوب آسيا. 

• لم تتأخر الهند في الرد على الشراكة التركية الباكستانية بتحركات كان أحدثها تطوير العلاقات العسكرية مع اليونان، فضلا عن الرهان على تحالفها الأهم مع “إسرائيل”، والترتيبات الإقليمية الأخرى المدعومة أمريكيا والتي تستهدف دمجها في المنطقة على حساب الصين.

• وفي ضوء المعطيات الحالية، يمكن توقع ثلاثة مسارات رئيسية للدينامية المرتبطة بحضور باكستان والهند ضمن توازنات منطقة الشرق التي ما زالت غير مستقرة وقيد التشكل: إذ يظل احتمال “الاحتواء” هو الأقوى، لكن التحول إلى “اصطفافات متقابلة” يبقى خطرًا حقيقيًا خاصة وأن اتساع دائرة الحرب الراهنة غير مستبعد. بينما الخيار الأكثر استدامة –وإن كان ضعيف الاحتمال اليوم– هو تحول الخليج إلى منصة توازن ووساطة بين الهند وباكستان تعزز الاستقرار بدلًا من أن يكون ساحة صراع.

مقدمة

  • اختُتمت النسخة الأولى من المناورات البحرية الثنائية بين البحرية الهندية والبحرية اليونانية في 18 سبتمبر/أيلول 2025 في البحر الأبيض المتوسط، مُمثلةً علامة مهمة على تنامي التعاون الدفاعي بين الهند واليونان. وأُجريت المناورات في الفترة من 13 إلى 18 سبتمبر، في قاعدة سالاميس البحرية، ومثّلت البحرية الهندية فرقاطة الشبح المزودة بصواريخ موجهة INS Trikand. وجاء ذلك في تزامن غير مقصود، لكنه له دلالة بارزة، مع توقيع الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني يوم 17 سبتمبر/أيلول.
  • من بين الاستنتاجات المتعددة الممكنة لربط الحدثين معا، تجدر الإشارة إلى أن “تأثير الفراشة” المرتبط بحرب غزة على معادلات الأمن والجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط لم تعد حبيسة الجغرافيا العربية وحدها، بل باتت متشابكة مع التوازنات الآسيوية الأوسع

فمع مساعي الهيمنة العسكرية الإسرائيلية إٍقليميا، سيكون للشراكة الدفاعية بين أنقرة وإسلام آباد، والتحالف العسكري بين باكستان والسعودية، وربما دول خليجية أخرى مستقبلا، مغزى مختلفا أوسع من منطقة الشرق. كما أن الشراكات التكنولوجية والأمنية بين نيودلهي وتل أبيب، وربما نيودلهي واليونان، إلى جانب الروابط الاقتصادية المتنامية بين دول الخليج والهند، كلها عوامل تعني أن التنافس في جنوب آسيا بات متصلا قلب المشهد الإقليمي في منطقة الشرق. وفي هذا السياق، يظهر الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني كخطوة لتعزيز أمن الخليج في مواجهة ارتدادات الحرب، لكنه في الوقت ذاته يفتح المجال أمام منافسة أوسع بين الهند وباكستان، لتغدو معادلة الأمن الإقليمي محكومة بتداخل بين الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

باكستان والخليج: أمن مقابل الاقتصاد

  • ارتبطت باكستان منذ نشأتها بالمحور الذي ترعاه الرياض في مواجهة التكتلات الأخرى، فانضمت في الخمسينيات إلى تحالف “السنتو” مع تركيا وإيران لاحتواء النفوذ السوفيتي ومواجهة المد الناصري. ثم أصبحت إسلام أباد شريكا عسكريا يعتمد عليه الخليج في قضايا الأمن، وذلك من خلال مؤشرات أبرزها

    • أرسلت باكستان طيارين لدعم السعودية في حربها ضد اليمن عام 1969.
    • بنت المخابرات الباكستانية شراكة واسعة مع نظيرتها السعودية في مواجهة الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979.
    • نشرت إسلام أباد 15 ألف جندي في الأراضي السعودية خلال حرب العراق وإيران.
    • اختارت الرياض قائد الجيش الباكستاني الجنرال رحيل شريف لقيادة “التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب” عام 2015.
  • في المقابل، وفّرت السعودية شريانًا حيويًا لاقتصاد باكستان، تمثل في مؤشرات مثل

    • عقب العقوبات الأميركية بعد التجربة النووية الباكستانية عام 1998، تعهدت الرياض بتقديم 50 ألف برميل نفط    يوميًا بأسعار تفضيلية لمدة ثلاث سنوات.
    • قدمت السعودية قروضًا ودعماً مالياً في أزمات لاحقة، منها 6 مليارات دولار عام 2018.
    • شكّل وجود أكثر من مليوني عامل باكستاني في الخليج مصدرًا رئيسيًا للتحويلات المالية التي تعتمد عليها الأسر الباكستانية والاحتياطيات الأجنبية للدولة.

لكن رغم الارتباط الوثيق، التزمت باكستان بحدود واضحة في تدخلها في ملفات الشرق الأوسط، وحافظت على توازن دقيق في علاقاتها مع السعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى. فلم تصطف مع العراق ضد إيران في الثمانينيات، ورفض برلمانها الانخراط في حرب اليمن عام 2015 خشية انعكاس الصراع الطائفي على الداخل الباكستاني، إذ يشكّل الشيعة خمس السكان. وأكد الجيش الباكستاني أن التزامه يقتصر على الدفاع عن الأراضي السعودية ضد أي عدوان خارجي، لا المشاركة في حملات هجومية.

اليوم، تجد باكستان نفسها أكثر تمسكًا بالحفاظ على موقعها في الخليج مع دخول منافستها الهند بقوة إلى المشهدين الاقتصادي والاستراتيجي من خلال شراكات مع دول خليجية و”إسرائيل” تشجعها واشنطن، وبما يهدد بإعادة تشكيل ميزان القوى جنوب آسيا عبر منح الهند تفوقًا نوعيًا في مجالات الدفاع الصاروخي والاستخبارات والذكاء الاصطناعي. لذلك. ترى إسلام آباد في تعزيز تحالفها الدفاعي مع السعودية خط أمان مزدوج: يضمن لها موطئ قدم وسط التحولات الإقليمية المتسارعة، ويوفر لها دعماً مالياً وسياسياً وموارد طاقة حيوية. وفي المقابل، تمنح باكستان للرياض مظلة ردع نووية تعزز قدرة المملكة على مواجهة بيئة إقليمية مضطربة.

الهند بين الخليج و”إسرائيل”: شراكات تتوسع غربًا

أسهم صعود الهند الاقتصادي في تعزيز حضورها بالشرق الأوسط. فباعتبارها خامس أكبر اقتصاد عالمي وأكبر دولة من حيث عدد السكان، أصبحت احتياجاتها من الطاقة المحدِّد الأبرز لسياستها الخارجية. إذ تعتمد نيودلهي على الخليج لتأمين نحو 55% من وارداتها من الغاز الطبيعي المسال و59% من وارداتها النفطية، فضلًا عن وجود قرابة تسعة ملايين عامل هندي في دول مجلس التعاون الخليجي. 

هذه الروابط الاقتصادية والديموغرافية تجعل من أي اضطراب في الخليج أو الشرق الأوسط –من ارتفاع أسعار النفط إلى تهديد الملاحة في مضيق هرمز– أزمة داخلية للهند بقدر ما هو تحدٍّ خارجي، بما يرسّخ ارتباط أمنها القومي مباشرة باستقرار المنطقة.

رغم تمسكها تقليديًا بمبدأ “الاستقلال الاستراتيجي” ورفض التحالفات الرسمية، اتجهت الهند منذ عام 2005 إلى توسيع انخراطها غربًا عبر سياسة “التوجه غربًا”، التي أعاد رئيس الوزراء مودي تسميتها لاحقًا بـ”التواصل غربًا”، في اعتراف صريح بأن الخليج والشرق الأوسط أصبحا مجالًا مباشرًا لنفوذها. هذا التحول تُرجم في صعود الإمارات والسعودية إلى موقع الشريكين التجاريين الثالث والرابع لنيودلهي على التوالي.

  • مع تصاعد التوتر مع الصين، توثقت شراكة الهند الدفاعية مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، وأدرجت نيودلهي الشرق الأوسط ضمن استراتيجيتها الأوسع في المحيطين الهندي والهادئ، حيث:

    • كثّف مودي منذ 2015 زياراته لعواصم الخليج و”إسرائيل”، وأبرمت نيودلهي اتفاقيات دفاعية وتدريبات مشتركة، بما رسّخ صورة الهند كقوة صاعدة تسعى بجوار تعزيز التجارة إلى تأمين خطوط الملاحة ومصادر الطاقة.
    • امتدت الشراكة الهندية–الإسرائيلية إلى المبادرات الإقليمية التي أطلقتها اتفاقيات إبراهام، بعدما انخرطت نيودلهي في مجموعة “I2U2” إلى جانب “إسرائيل” والإمارات والولايات المتحدة للتعاون في مجالات التكنولوجيا والأمن الغذائي.
    • في عام 2023، انضمت الهند إلى القوات البحرية المشتركة المتمركزة في البحرين بقيادة الولايات المتحدة، ونشرها وحدات بحرية قبالة الصومال لمكافحة القرصنة، ومؤخرًا في البحر الأحمر لحماية السفن التجارية من هجمات الحوثيين.

في عام 2023، انضمت الهند إلى القوات البحرية المشتركة المتمركزة في البحرين بقيادة الولايات المتحدة، ونشرها وحدات بحرية قبالة الصومال لمكافحة القرصنة، ومؤخرًا في البحر الأحمر لحماية السفن التجارية من هجمات الحوثيين.

ومع ذلك، ظل الانخراط الهندي في الشرق الأوسط محسوبًا، إذ حرصت نيودلهي على تقديم نفسها كشريك اقتصادي وأمني داعم للاستقرار أكثر من كونها قوة تدخلية في صراعات الشرق الأوسط.

منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الهند و”إسرائيل” عام 1992، أصبح التعاون الدفاعي الركيزة الأساسية للشراكة بين الجانبين. ومع نزاع كارجيل عام 1999 وهجمات مومباي عام 2008، برزت حاجة الهند إلى تقنيات عسكرية إسرائيلية متقدمة، شملت الطائرات من دون طيار، والرادارات، وأنظمة الإنذار المبكر (أواكس). وبالمقابل، وجدت تل أبيب في الهند سوقًا ضخمًا للسلاح وشريكًا سياسيًا واعدًا، إذ احتلت الهند المركز الأول بنسبة 34% من تلقي صادرات السلاح الإسرائيلية خلال الفترة من 2020 إلى 2024، فيما غطت “إسرائيل” 13 % من واردات الهند الدفاعية.

تركيا وباكستان في مواجهة الهند: ارتدادات متبادلة

شهدت العلاقات التركية–الباكستانية نقلة نوعية في مجال التعاون الدفاعي، تجسدت ذروتها في زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان لإسلام آباد في فبراير/شباط 2025، والتي تخللتها توقيع 24 اتفاقية شملت قطاعات متعددة، إلى جانب تدريبات عسكرية مشتركة مثل “أتاتورك-13″، ومشاريع تصنيع للطائرات المسيرة والسفن الحربية. 

هذا المسار رسّخ موقع أنقرة كثالث أكبر مزوّد للأسلحة لباكستان، وبلغ ذروته حين استخدمت إسلام آباد مئات الطائرات المسيرة التركية في هجماتها ضد الهند خلال “عملية سيندور” العسكرية التي أطلقتها نيودلهي ضد باكستان في مايو/أيار 2025، ما أثار استنفارًا واسعًا في نيودلهي وعمّق قناعتها بأن أنقرة تجاوزت دائرة الحياد لتتحول إلى طرف فاعل في الصراع مع باكستان.

  • عكست هذه الإجراءات إدراكًا هنديًا متزايدًا بأن التحالف التركي–الباكستاني بات جزءًا من اصطفاف جيوسياسي جديد يهدد التوازن الإقليمي في جنوب آسيا. ولم تتأخر الهند في الرد على الشراكة التركية الباكستانية؛ وذلك من خلال

    • العمل على موازنة هذا الضغط عبر تعزيز شراكة الهند مع أطراف إقليمية مناوئة أو منافسة لتركيا، خاصة “إسرائيل” و”أرمينيا”، في مشهد يربط الصراع في جنوب آسيا مع باكستان بتحولات أوسع تشمل الشرق الأوسط وجنوب القوقاز.
    • المناورات الثنائية غير المسبوقة مع اليونان توجه رسالة واضحة لأنقرة أن نيودلهي ستكون حاضرة في صراع شرق المتوسط المعقد إلى جوار حلفائها (“إسرائيل” وقبرص واليونان) ضد تركيا.
    ألغت الهند تراخيص شركات تركية عاملة في مطاراتها، وعلّقت جامعاتها برامج تبادل مع مؤسسات تركية، كما أطلقت حملة مقاطعة للمنتجات الاستهلاكية القادمة من أنقرة.

مآلات وسيناريوهات

في ظل استمرار تفاعلات مآلات حرب غزة، يبدو أن معادلات الأمن في الشرق الأوسط لم تعد حبيسة الجغرافيا العربية وحدها، بل باتت متشابكة مع التوازنات الآسيوية الأوسع. وفي ضوء المعطيات الحالية، يمكن توقع ثلاثة مسارات رئيسية للدينامية المرتبطة بحضور باكستان والهند ضمن توازنات المنطقة التي مازالت غير مستقرة وقيد التشكل:

أولا: سيناريو الاحتواء الحذر (أكثر احتمالا)

  • الوصف: تبقى الشراكات العسكرية والاقتصادية بين كلٍ من الهند وباكستان مع دول المنطقة في حدودها الراهنة، مع تفادي الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة. إذ يعتمد الطرفان على توازن من الردع (النووي الباكستاني المتحالف مع الصعود العسكري التركي، مقابل تفوق تكنولوجي للهند و”إسرائيل”).
  • شروط التحقق:
    • نجاح واشنطن في الحفاظ على خطوط التواصل مع الطرفين ومنع التصعيد.
    • أولوية باكستان لترميم أزماتها الاقتصادية والسياسية الداخلية.
    • إدراك دول الخليج أن صراعًا مباشرًا بين الهند وباكستان داخل المنطقة سيضر بأمن الطاقة والتجارة، ومجمل الاستقرار الإقليمي.

النتيجة المحتملة: بقاء منطقة الخليج ساحة تنافس محسوب، دون تحول إلى ميدان صراع مكشوف.

سيناريو التصعيد والاصطفاف (محتمل)

  • الوصف: تتعمق التحالفات المتقابلة (باكستان–تركيا–السعودية–قطر) في مواجهة محور (الهند–”إسرائيل”–الإمارات–اليونان–أرمينيا). يؤدي ذلك إلى انتقال التوتر التقليدي في جنوب آسيا إلى قلب الخليج وشرق المتوسط، بما يشمل احتكاكات عسكرية قابلة للاحتواء، خاصة في شرق المتوسط وسوريا.
  • شروط التحقق:
    • استمرار الهجمات الإسرائيلية واتساعها إلى ساحات جديدة مثل العراق، أو استئنافها مجددا في ساحات مثل إيران ولبنان وسوريا، وحتى قطر.
    • استثمار الهند و”إسرائيل” تعاونهما العسكري–التكنولوجي ليترجم إلى محاولة تغيير الوضع الراهن في ملفات مثل شرق المتوسط أو كشمير.
    • ظهور طابع ومستوى متقدم غير متوقع من الشراكة الدفاعية السعودية مع باكستان، وانضمام دول خليجية أخرى إليها.

النتيجة المحتملة: مواجهة غير مباشرة عبر المناورات، وحروب الوكالة، وسباق تسلح مكلف في الخليج وجنوب آسيا.

سيناريو التحول الاستراتيجي (غير مرجح)

  • الوصف: يتحول الخليج إلى ساحة وساطة وتوازن بين جنوب آسيا والشرق الأوسط، بحيث تستثمر الدول الخليجية روابطها الاقتصادية والتكنولوجية مع الهند، وعلاقاتها الدفاعية مع باكستان، لتخفيف حدة الاستقطاب.
  • شروط التحقق:
    • توفر إرادة خليجية لصياغة سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الاستقطاب الأميركي–الإسرائيلي.
    • انفتاح هندي–باكستاني محدود على قنوات حوار غير مباشرة برعاية خليجية.
    • احتواء التوتر الناشئ بين تركيا والهند، وتغليب المكاسب الاقتصادية والتجارية على العداء.
    • استقرار نسبي في ملفات غزة وإيران يتيح مجالًا لمبادرات بناء الثقة.

النتيجة المحتملة: الخليج يتحول من ساحة اصطفاف إلى ساحة توازن، مع تعزيز صورته كوسيط دولي.