مكران، مقترح العاصمة الجديدة لإيران

هذه هي مكران، المدينة التي قد تُصبح العاصمة الجديدة لإيران، إذ أعرب الرئيس بزشكيان مؤخراً عن دعمه لنقل العاصمة من طهران إلى الجنوب، لتكون أقرب إلى خليج عمان، ولا يزال المسؤولون في طور مناقشة التشريع، لكن الفكرة تحظى بزخمٍ متزايد، ويجادل أنصار الفكرة بأن هذا التغيير ضروريٌ لرفاه البلاد، وهم على حق. إذ تواجه طهران منذ زمن بعيد تعقيدات مثل الاكتظاظ السكاني، والزحام المروري، وتلوث الهواء، ومخاطر الزلازل، ونقص المياه، وانخساف التربة، وتُعتبر العديد من هذه المشكلات متفشيةً ولا مجال لحلها قريباً.

وفي الواقع، ستتضاعف مشكلات طهران إذا استمرت الأوضاع بهذه الوتيرة، ولنلق نظرةً على الاكتظاظ السكاني كمثال، توضح هذه الخريطة طبيعة المشكلة، إذ تمثل كل نقطةٍ عشرات الآلاف من الناس، وهنا تبرز طهران بكل وضوح، إذ يمكنك تمييز الحدود الإدارية للمدينة بالكامل تقريباً. يبلغ عدد سكان المدينة نحو 9 ملايين نسمة، لكن الرقم يتجاوز الـ14 مليوناً عند إضافة سكان المنطقة الحضرية الكبيرة، وسيزيد هذا الرقم بأكثر من الضعف خلال العقود المقبلة.

من المثير للاهتمام في الإعلان عن مكران أنه تزامن مع استعراض بحرية الحرس الثوري لقاعدة صواريخ تحت الأرض، على الساحل الجنوبي، ولم يُكشف عن موقع القاعدة بالتحديد، لكن نطاق عملياتها سيغطي العاصمة الجديدة المُحتملة على الأرجح، وقد أظهر الفيديو الرسمي مختلف أنواع الصواريخ الجوالة، والمركبات البحرية، والأنفاق الطويلة، وغيرها. هذه قاعدةٌ مذهلة بمعايير المنشآت تحت الأرض، كما أنها شاملةٌ أيضاً، وأشارت إليها بعض المصادر بوصف “مدينة الصواريخ”.

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو لماذا تريد إيران تغيير عاصمتها؟

دوافع العاصمة الجديدة لإيران

طهران هي عاصمة إيران منذ عام 1786، وتحتل موقعاً عالياً نسبياً فوق منحدرات جبال ألبرز، على ارتفاع 1173 متراً عن سطح البحر، ما يجعل طقسها بارداً مقارنةً بالعديد من مدن المنطقة، لكن قاعدة جبال ألبرز تتقاطع مع خط صدع زلزالي كبير أيضاً. تعرضت طهران لآخر زلزال كبير عام 1830، لكن العديد من الهزات الصغيرة تضرب المدينة كل عام، وحذّر علماء الزلازل الإيرانيون مراراً من أن تعرض طهران لزلزال قوي ستكون له تداعيات كارثية. وقع آخر زلزال كبير في إيران شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2003، حين ضرب زلزال بقوة 6.8 درجة مدينة بم، ليحصد أرواح أكثر من 30 ألف إنسان.

وإذا ضرب زلزال مماثلٌ طهران؛ فسيحصد أرواح أكثر من 700 ألف إنسان، ليس هذا خطراً يُستهان به. أي إن هذا القلق هو الأساس الذي وُلِدَت من رحمه فكرة تغيير العاصمة، لكن هذه قد لا تكون أكثر المشكلات إلحاحاً الآن، لأن طهران غارقةٌ في تعقيدات تزيد صعوبة استدامة الحياة فيها بصراحة.

لهذا يرى الرئيس الإيراني أنه لا مجال لحل مشكلات طهران، وأن الحل الوحيد يتمثل في نقل العاصمة إلى مكانٍ آخر. لم يتحدد مكان تلك العاصمة الجديدة بعد، لكن مدينة مكران على ساحل الخليج العربي هي المنافس الأقوى، وبمجرد اتخاذ قرار النقل رسمياً؛ سيتعيّن تمريره في البرلمان، ثم الموافقة عليه بواسطة مجلس صيانة الدستور، الكيان المسؤول عن ضمان امتثال كل قرارات البرلمان للدستور.

وبعدها، وفي الوقت المناسب؛ ستنتقل كافة المؤسسات الحكومية والتكتلات التجارية إلى العاصمة الجديدة، ومن ثم سيصبح لدى سكان طهران خيار الانتقال إليها أيضاً. ويقول أنصار الفكرة إن هذا التغيير سيخفف العبء عن طهران، ويخلق ظروفاً مواتية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المحافظات والمدن الأخرى، لكن نقل العاصمة سيتكلّف عشرات المليارت من الدولارات، وسيستغرق نحو 25 عاماً. تشير التقديرات الرسمية إلى تكلفة تبلغ 10 مليارات دولار، لكن الرقم قد يصل إلى 50 مليارا لو أضفنا عوامل مثل التخطيط الحضري، والاستحواذ على الأراضي، وتشييد البنية التحتية.

كما سيأتي المشروع في خضم تراجع عائدات النفط والعقوبات الغربية، التي استنزفت الخزانة الإيرانية وقلّصت التمويل المتوفر للتنمية بعيدة الأجل، أي إن الخطة تحوي العديد من أوجه القصور، لكن لها جانب منطقي واحد قد يبرر تغيير العاصمة. لم يقع الاختيار على مكران رسمياً بعد، لكن بزشكيان اقترحها حين تحدث عن سوء التنظيم في الجانب اللوجستي ومعالجة المنتجات بالبلاد وقال إنه من غير الممكن تطوير الاقتصاد على المدى البعيد.

  • تسلك عملية معالجة المنتجات في إيران مساراً مناهضاً للإنتاجياً
  • يجري استيراد غالبية المواد الخام والموارد عبر البحر
  • يتم شحنها إلى طهران من أجل تحويلها إلى منتجات
  • تُعاد إلى الجنوب مرةً أخرى لتصديرها

لهذا يُعد بناء مركزٍ صناعي على الساحل الجنوبي أمراً منطقياً، إذ إن إلغاء رحلة البضائع ذهاباً وعودة بطول إيران سيزيد الإنتاجية ويخفض التكاليف. كما سيصبح إتمام العمل أسهل بكثير، علاوةً على أن طهران تشكل حالياً 30% تقريباً من إجمالي الناتج المحلي لإيران، ولن تتضرر البلاد بزيادة اللامركزية قليلاً، بل سيعزز هذا من تنافسيتها في الواقع. لكن نقل الصناعات والناس ليس بالأمر الهين، إذ لا تستطيع الحكومة أن تطلب من السكان حزم أمتعتهم والمغادرة، أي إن السبيل الوحيد لتحريك الناس والصناعات هو أن تبدأ الحكومة بنفسها.

مكران العاصمة الجديدة لإيران

“حركة التجارة”

قد يُحدِث نقل الثقل السياسي والاقتصادي لإيران جنوباً، بالقرب من البحر، تأثيراً كبيراً على علاقاتها مع الدول الأخرى. ستتأثر بذلك روسيا والهند على وجه التحديد، ولتوضيح السياق؛ تعمل موسكو على تعزيز تجارتها بطول محورٍ عمودي يشمل السفن، والسكك الحديد، والطرق، ويمثل ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب ركناً أساسياً في جهودها. إذ يربط سانت بطرسبرغ بمومباي عبر إيران، متجاوزاً بذلك المجالين الجيوسياسيين الغربي والصيني معاً.

  • يربط الممر بين السكك الحديد والموانئ لنقل البضائع
  • يمتد من سانت بطرسبرغ وموسكو إلى فولغوغراد
  • يستمر إلى مدينة أستراخان جنوباً
  • وينقسم من هناك إلى فرعين:
  1. ينطلق الفرع الغربي عبر السكك الحديد ليمر بباكو، وصولاً إلى إيران
  2. يمثل الفرع الشرقي حلقة وصل بحرية، تمتد من روسيا إلى إيران عبر بحر قزوين

ويلتقي المساران المتوازيان عند مدينة بندر أنزلي ليكملا الطريق جنوباً، قبل التفرق ثانيةً قرب زاهدان. ويتحرك خطا السكة الحديد بعدها وصولاً إلى مينائي بندر عباس وجابهار، ومن هناك، يقطع المساران بحر العرب لينتهي بهما المطاف في مومباي. بالنسبة لروسيا وإيران؛ يُعد التفاعل مع الدول المحايدة مصدراً لتنويع التجارة الضروري بشدة، وذلك لإبعادهما عن الهيمنة الاقتصادية للصين، وعن الكتلة الغربية التي تنبذهما.

تحمل موسكو وطهران الميداليتين الذهبية والفضية، على الترتيب، لأكثر الحكومات الخاضعة للعقوبات في العالم، لهذا كانت الاستجابة الطبيعية للبلدين هي التقرب من الدول المحايدة كالهند. من جانبها، تخطط نيودلهي لزيادة حجم تجارتها الإجمالية من 640 مليار دولار إلى تريليوني دولار بحلول 2030، ويُعد ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب وسيلةً لتحقيق غاياتها، لكن هذا الممر ليس الوحيد على مسرح الأحداث.

في سبتمبر/أيلول 2023، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.

  • يربط هذا الممر بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط
  • يتألّف من شبكة متعددة الطبقات من خطوط السكك الحديد والموانئ
  • من المفترض أن ينقل البضائع عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، قبل الوصول إلى موانئ جنوب أوروبا

لكن صراع غزة أحبط جدوى هذا الممر الاقتصادي لأنه يحاول ضم السعودية وإسرائيل في مسار واحد. أي لم يعد لدى الهند سوى خيار ممكن واحد، بينما تحاول إيران زيادة جاذبية ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، عبر نقل عاصمتها إلى موقعٍ أقرب من نقطة تقاطع الممر عند ميناء جابهار.

تقع العاصمة المحتملة مكران على مرمى حجر من هذا الميناء، هذا يجعل نقل الصناعة من طهران إلى مكران أمراً منطقياً من منظور الجغرافيا الاقتصادية، لكنها خطوة تنطوي على ثقةٍ قد تكون أكبر من اللازم، إذ إن الموقع المطل على البحر يضع مكران ضمن مرمى نيران القوات المعادية. إذ يهيمن الأسطول الخامس الأمريكي على المياه القريبة.

صحيحٌ أن العلاقات بين إيران وأمريكا لن تظل متوترة للأبد، وأن التجارة ستتدفق عبر المنطقة في النهاية، لكن الظروف الأمنية الراهنية تعني أن اختيار عاصمة على أطراف إيران ليس منطقياً من الناحية السياسية، حتى وإن كان منطقياً من الناحية الاقتصادية، وإذا لم تكن مكران الخيار المنطقي سياسياً؛ فلماذا تعتزم الحكومة بناءها؟

المسافة خير صديق

ليست فكرة نقل العاصمة وليدة اللحظة، ظهرت الفكرة قبل الثورة الإسلامية عام 1979، لكنها حظيت بزخمٍ في التسعينيات نتيجة تفاقم الاختناق المروري، وتلوث الهواء الدائم، وخطر الزلازل. وفي 1991، اقترح المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران خطةً لنقل العاصمة، لكنها رُفِضَت في النهاية، وظهرت مقترحات مشابهة بين عامي 2005 و2013 أثناء رئاسة أحمدي نجاد، إذ تحمّس مسؤولو إيران بسبب نجاح تجارب نقل العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة ومن كراتشي إلى إسلام آباد، في تركيا وباكستان المجاورتين.

قدم نحو 52 برلمانياً إيرانياً مشروع قانون لنقل العاصمة، وبناءً عليه؛ تشكّل مجلس خاص من 15 عضواً لاستكشاف بدائل لطهران على مدار عامين، لكنهم لم يتوصلوا إلى قرار نهائي بنقل العاصمة. رغم ذلك، شهدت رئاسة روحاني إحياء مشروع نقل العاصمة مرةً أخرى، كما وضعوا خطةً للعملية في الواقع، وظهرت أسماء العديد من المدن كبدائل مقترحة لطهران في مختلف الأوقات، ومنها أصفهان وشيراز ومشهد وقم وتبريز، لكن خصوم روحاني السياسيين رفضوا الخطة، مجادلين بأنه يجب على الحكومة الاستثمار في تطوير وتنمية طهران بدلاً من ذلك.

واليوم، يطرح بزشكيان الفكرة من جديد، لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت هذه الدعوة لنقل العاصمة ستحظى بالدعم السياسي والشعبي اللازم، فهذا الجدال قائمٌ منذ عقود، ما يظهر مدى صعوبة التوافق عليه، لكنه يأتي هذه المرة بالتزامن مع منعطفٍ غير متوقع.

إذ يؤيد كبار قادة الحرس الثوري الإيراني فكرة تغيير العاصمة، لكن أسبابهم لا علاقة لها بتعقيدات طهران أو حتى الممرات التجارية في المنطقة، يتمحور دور الحرس الثوري حول ضمان بقاء الحكومة، وعند التفكير من منظورهم؛ سنجد أن طهران مكان يتأرجح فوق هاوية الثورة، إذ تضرب الاحتجاجات الحاشدة المناهضة للحكومة طهران كل بضع سنين، لدى الشعب الإيراني العديد من المظالم ضد حكومته، ولا يتطلّب الأمر سوى واقعةٍ واحدة لإثارة الاضطرابات العامة.

إذ اندلعت الاحتجاجات في 1999 حين أغلقت الحكومة صحيفةً إصلاحية، وفي 2009، خرج الناس إلى الشوارع بسبب مزاعم تزوير الانتخابات، ثم أثار التضخم احتجاجات على مستوى البلاد عام 2017، وفي 2018، كاد ارتفاع أسعار الوقود أن يُطيح بالحكومة، ثم جاء موت مهسا أميني، بعد توقيفها بواسطة شرطة الأخلاق، ليؤجج الحماس الثوري عام 2022.

وإذا نظرت للأحداث على جدولٍ زمني؛ ستلاحظ أن الاحتجاجات الحاشدة صارت أكثر تكراراً، ولا يحتاج الأمر سوى انقلابٍ ناجحٍ واحد لإنهاء حكم رجال الدين، لهذا قد يرى الحرس الثوري أنه من الأفضل نقل القوة السياسية لإيران إلى مكان آخر.

تقع مكران على بعد نحو 1,400 كلم عن طهران، وتحيطها الصحاري الحارقة من الشمال، ومن الصعب تخيل زحف ملايين الناس من طهران والمدن الكبرى من أجل التظاهر في مكران، وربما يكمن هنا بيت القصيد، إذ تسمح هذه المسافة للحرس الثوري بالدفاع عن الجمهورية الإسلامية حال اندلاع ثورة. هذا يعني أن مكران ستكون النسخة الإيرانية من فرساي، أي مدينة مصممة لإبعاد مقر المرشد الأعلى عن متناول الناس، ومع ذلك، فإن من الصعب توقُّع الثورات أو التنبؤ بها؛ فحركتها أسرع من وقع الأقدام، وهي كما الأفكار، تجتاز الحدود قبل الأجساد