لماذا يبيع ترامب أوكرانيا في مقابل السلام مع روسيا؟

دونالد ترامب يظهر من جديد كلاعبٍ رئيسي يحاول إعادة تشكيل النظام العالمي، في وقت تتبدّل فيه أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. وهذه المرة كان بروز دور ترامـب من بوابة أوكرانيا. فعندما قال هنري كيسنجر يوماً إن “معاداة أمريكا قد تكون خطيرة، لكن صداقتها قد تكون مميتة”، لم يكن يدرك أن عبارته ستجد صدى مرعباً في المشهد الجيوسياسي الحالي، حيث تواجه أوكرانيـا أسوأ كوابيسها في ظل ما يُشاع عن نوايا ترامب للانسحاب من دعمها، مقابل تقارب غير مسبوق مع روسيا.

معاداة أمريكا قد تكون خطيرة، لكن صداقتها قد تكون مميتة

هنري كيسنجر

انقلاب في المواقف: من الدعم إلى التخلي

تثير التحركات الأخيرة لفريق ترامب، وفق تقارير متعددة، شكوكاً وتساؤلات عميقة في الأوساط الغربية. فالرجل الذي دعم تسليح أوكرانيا علناً في بداية الحرب، يبدو اليوم مستعداً للتوسط في اتفاق سلام مع موسكو، قد يشمل تقديم تنازلات كبيرة من الجانب الأوكراني. وتشير مزاعم إلى أن فريقه عرض على روسيا:

  • انسحابات أمريكية من شرق أوروبا
  • تخفيفاً للعقوبات
  • ورفضاً قاطعاً لانضمام أوكرانيـا إلى حلف الناتو

مقابل تفاهمات لم تُكشف بنودها بالكامل حتى الآن. غير أن المحيّر في الأمر، هو أن روسيا لم تقدم مقابل هذا سوى القليل، مما يطرح تساؤلا: ما المكاسب الحقيقية التي يسعى ترامب لتحقيقها من هذا التنازل؟

الشيء الوحيد الذي لا تريد حدوثه هو اتحاد الصين وروسيا

الرئيس الأمريكي – دونالد ترامب
لماذا يبيع ترامب أوكرانيا في مقابل السلام مع روسيا؟

الصين في مرمى الحسابات الجديدة

يجب النظر إلى خارطة الأولويات الاستراتيجية كما يرسمها ترامب نفسه لفهم ما يحاول الإقدام عليه. ففي مقابلة أجريت معه في أكتوبر 2024، قال صراحة إن “الشيء الوحيد الذي لا تريد حدوثه هو اتحاد الصين وروسيا”. من هنا، يبدو أن تفكيك هذا التحالف هو جوهر خطة ترامب، الذي يسعى إلى استمالة موسكو بعيداً عن بكين، أملاً في تحييد جبهة روسيا من الصراع المحتمل مع الصين. هذه المقاربة تذكّرنا بما فعله كيسنجر نفسه إبان الحرب الباردة حين سعت الولايات المتحدة لجرّ الصين إلى صفّها في مواجهة الاتحاد السوفيتي. لكن ترامب يحاول تكرار المعادلة بالعكس، إذ يحاول جذب روسيا هذه المرة، لفصلها عن شريكتها الآسيوية الصاعدة.

العلاقات التجارية بين روسيا والصين:

  • 40% من واردات روسيا تأتي من الصين
  • 30% من صادرات روسيا تذهب إلى الصين

أوكرانيا… ضحية “لعبة الشطرنج الكبرى”

في خضم هذه الحسابات، تتحوّل أوكرانيا إلى مجرد ورقة تفاوض، بيادق على رقعة الشطرنج الدولية. فالرغبة الأمريكية في احتواء الصين تأتي، على ما يبدو، على حساب السيادة الأوكرانية. والأسوأ، أن التوقيت الذي يجري فيه التفاوض، يأتي في مرحلة حرجة من الحرب، خاصة بعد استخدام كييف لصواريخ أمريكية وبريطانية بعيدة المدى ضد أهداف داخل الأراضي الروسية، ما دفع موسكو إلى إصدار عقيدتها النووية الجديدة، التي تُخفض العتبة المطلوبة لاستخدام الأسلحة النووية ضد دول غير نووية. وأمام هذا التصعيد غير المسبوق، أعادت موسكو تعريف سياستها النووية، مما خفّض العتبة المطلوبة لاستخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، لتصبح الحرب الأوكرانية نقطة تحوّل مرعبة في ميزان الردع الدولي.

تصعيدٌ قابلته روسيا بإشارات مقلقة، كاستهداف منشآت حساسة، أبرزها محطة تشيرنوبل، بواسطة مسيّرات شديدة الانفجار، دون أن تنفجر رؤوس نووية حتى الآن، لكنها رسائل واضحة بأن الصبر الروسي بدأ ينفد، وأن الردع النووي عاد إلى قلب المعادلة.

هل تنجح خطة فرق تسُد؟

لكن رغم جرأة المشروع، فإن أوجه القصور فيه واضحة. فالعلاقة الروسية الصينية اليوم مختلفة تماماً عن واقع السبعينيات. فبعد عزلة موسكو عقب ضم القرم، ثم الحرب الأوكرانية، أصبحت الصين شريكاً اقتصادياً لا غنى عنه لروسيا. ومع ازدهار التبادل التجاري، وتعميق التعاون العسكري والتقني، تحوّلت العلاقة إلى تكافل استراتيجي قائم على المصلحة، وليس مجرد تحالف عابر.

وبينما تطمح أمريكا إلى تقليص جبهة الناتو الشرقية وسحب قواتها من أوروبا الشرقية ضمن صفقة مغرية للكرملين، فإن نفوذ الصين في روسيا بات أكبر من أن يُتجاهل، ناهيك عن أن بوتين يدرك أن ترامـب في أفضل الأحوال رئيس لولاية أخيرة، بينما تخطط موسكو على المدى الطويل.

هل تخسر أمريكا أكثر مما تكسب؟

أبعد من أوكرانيا، تبدو مقاربة ترامب محفوفة بالمخاطر. فسحب القوات الأمريكية من شرق أوروبا وتعليق المعونات الخارجية لا يعني فقط تقويض الدعم للديمقراطيات الناشئة، بل يُنذر بتآكل القوة الناعمة الأمريكية عالمياً، ويترك فراغاً جيوسياسياً قد تملؤه الصين وروسيا معاً. والأسوأ، أن الصفقة ــ في حال فشلها أو رفضها من موسكو ــ قد تترك أمريكا في موقع أضعف، وأوكرانيـا محطمة ومعزولة، وحلفاء الناتو في حالة ذعر. حينها، لن يكون سهلاً إعادة بناء الثقة الدولية أو ترميم التحالفات المحترقة.

الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا (اعتبارًا من 2022):

إجمالي الجنود: أكثر من 100,000 جندي

  • بولندا: 10,500
  • ليتوانيا: 4,000
  • لاتفيا: 1,700
  • إستونيا: 2,200
  • سلوفاكيا: 2,100
  • المجر: 800
  • رومانيا: 3,300
  • بلغاريا: 900

تبدو خطة ترامب وكأنها مقامرة على رقعة دولية متصدعة، حيث يسعى لإعادة رسم التوازنات الكبرى من بوابة صفقة سريعة مع بوتين، ولم تتوقف التنازلات عند حدود الجغرافيا، بل شملت أيضًا ما كان يُعرف تاريخيًا بأداة النفوذ الأمريكي الناعم، إذ مضى ترامـب في تعليق المعونات الخارجية، خاصة تلك التي ارتبطت بترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما منح الصين وروسيا مساحة أوسع للمناورة في مناطق النفوذ الرمادي حول العالم. في وقتٍ يزداد فيه التقارب الروسي الصيني تماسكاً، لا ضعفاً. وإذا صحّت هذه التقديرات، فإن أكثر ما قد تنتهي إليه هذه السياسة هو أن تُضحّي واشنطن بحلفائها دون أن تحصل على شيءٍ يُذكر في المقابل.