كيف تشق المكسيك قناة بنما الجديدة؟

تشتهر المكسيك بثقافتها وتقاليدها وتاريخها ومناظرها الطبيعية ومطبخها الغني. ويُقدَّر حجم اقتصادها بنحو 1.7 تريليون دولار، لتحتل بذلك المرتبة الـ12 على قائمة أكبر اقتصادات العالم، قبل أستراليا وكوريا الجنوبية مباشرةً، لكن رخاء المكسيك ليس موزعاً بصورةٍ عادلة، فهناك مناطق أكثر ثراءً من غيرها وبفارقٍ كبير. وفي شبه جزيرة يوكاتان مثلاً، سنجد أن مستويات معيشة ولاية كامبيتشي تشبه فرنسا، بينما سنجد أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في ولاية تشياباس القريبة يشبه بنغلاديش، ولا تتجاوز المسافة بين هاتين الولايتين 430 كلم، لكنك ستشعر أنهما بعيدتان كل البعد عن بعضهما.

يتجلّى هذا الشكل من غياب المساواة بطول البلاد وعرضها، ويبدو كأن الثروة في المكسيك لا تتسرب لأسفل على الإطلاق. وعلى مدار تاريخها؛ غذى هذا التفاوت الاضطرابات الاجتماعية، والثورات، وحتى انهيار البلاد. أما اليوم، فيعيش واحد من أصل كل ثلاثة مكسيكيين تحت خط الفقر، لكن المسؤولين يسعون لإصلاح الأوضاع. إذ تتمتع المكسيك بالمقومات الأساسية اللازمة لتحقيق نمو مستدام، فيمكن الوصول إليها بحراً من أوروبا وآسيا على السواء، كما أن لديها حدوداً برية مع الولايات المتحدة، وهناك منطقة تجارة حرة مشتركة بينهما، وتستهدف الحكومة استغلال تلك المزايا الآن عبر تحسين البنية التحتية وزيادة التنافسية وتحويل المكسيك إلى اقتصاد متقدم.

وقد بدأت النتائج تظهر بالفعل، ففي 2023، تم تصنيف المكسيك كواحدةٍ من أسرع الاقتصادات نمواً في مجموعة العشرين.

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف تشق المكسيك قناة بنما الجديدة

منافس قناة بنما في تيهوانتيبيك

تخيّل ظهور طريق مختصرة من المحيط إلى المحيط في موقعٍ شديد الأهمية بدرجةٍ قد تنافس قناة بنما، هذا هو ما يحدث في برزخ تيهوانتيبيك، أضيق أراضي المكسيك وأقلها من حيث التضاريس الجبلية. إذ تطور الحكومة هنا ممراً ضخماً يتألف من سكك حديدية، وطرق سريعة، وموانئ، ليربط ميناء سالينا كروز في ولاية واهاكا على المحيط الهادئ بميناء كواتزاكوالكوس في ولاية فيراكروز على ساحل خليج المكسيك.

  • يمتد ممر تيهوانتيبيك لمسافة تتجاوز الـ300 كلم
  • تبلغ تكلفته 7.5 مليار دولار
  • ستستغرق الرحلة بالقطار أقل من يومٍ واحد ما سيقلص مسافة الرحلة من الأطلسي إلى الهادئ بنحو 12 ألف كلم

وقد يبدو المشروع مبهراً، لكنه ليس محاولة المكسيك الأولى لتشييد ممرٍ بين المحيطين، إذ طُرِحَت الفكرة للمرة الأولى عام 1907 تحت مُسمى خط السكة الحديد الرابط بين المحيطين، وربط الخط ولاية واهاكا على المحيط الهادئ بولاية فيراكروز على المحيط الأطلسي، وقد حقق نجاحاً فورياً، إذ استخدمه التجار الدوليون، وازدهرت التجارة، وحصلت المكسيك على مصدر دخلٍ قيِّم جديد. لكن الثورة اندلعت بعد بضع سنوات؛ فجرت عسكرة خط السكة الحديد، ثم انهار بالتدريج حتى بلغ مرحلةً يتعذر إصلاحها، وأُغلِقَت هذه الصفحة للأبد مع افتتاح الأمريكيين لقناة بنما عام 1914، لتُكتب بذلك نهاية التجربة المكسيكية.

منافس قناة بنما في تيهوانتيبيك

تؤدي قناة بنما كل الأدوار التي يستهدفها ممر تيهوانتيبيك وأكثر، لكن الكثير من الأمور تغيّرت منذ القرن العشرين، إذ إن حجم تجارة المحيط الهادئ يتجاوز تجارة الأطلسي اليوم، ويأتي هذا مدفوعاً باقتصادات التصدير كالصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، فضلاً عن زيادة الطلب في أمريكا الشمالية. كما تغيّرت سلاسل التوريد العالمية بشكلٍ كامل، فقد زاد حجم السفن، وارتفعت تكاليف التأمين، وصارت طوابير السفن أطول من ذي قبل. لكن ممر تيهوانتيبيك أصبح خياراً منطقياً اليوم نظراً لأن قناة بنما لم تعد اعتماديةً كما كانت في السابق، إذ وصلت معدلات الماء في بحيرة غاتون القريبة لأدنى مستوياتها، ما يعطل عمليات القناة، وأسفر هذا عن طوابير انتظار طويلة أدت إلى انتظار بعض السفن لقرابة الأسبوعين في البحر.

وتستطيع السفن دفع ملايين الدولارات للعبور قبل دورها، لكن تكلفة ذلك ستقوض فعالية قناة بنما كطريق مختصرة، وهذا ما يجعل ممر تيهوانتيبيك بديلاً منطقياً اليوم، خاصةً بالنسبة للسفن على مسار شنغهاي-نيويورك، الذي يُعد من أكثر الطرق شيوعاً في التجارة الصينية الأمريكية. ومع ذلك، لن يكون ممر تيهوانتيبيك أسرع من قناة بنما فعلياً.

  • يستغرق عبور قناة بنما ما يتراوح بين 8 و10 ساعات
  • يستغرق عبور ممر تيهوانتيبيك بالقطار نحو 6 إلى 7 ساعات

لكن لا بد من حساب الوقت اللازم لتحميل وتنزيل آلاف الحاويات بين السفن والقطارات أيضاً، ما يعني أن زمن الرحلة قد يمتد إلى 15 ساعة. وهذا ليس أسرع من الناحية الفعلية، لكن قضاء 15 ساعة في القطار سيكون أفضل من الانتظار لأسبوعين في عرض البحر، وقد افتُتِحَت قطارات الركاب على ممر تيهوانتيبيك في أغسطس/آب 2023، لكن العمل جارٍ على قدمٍ وساق لإصلاح الموانئ على جانبي السكة الحديد.

وعلى صعيد السعة، يستطيع الممر استيعاب نحو 5% فقط من حجم التجارة العابرة لقناة بنما، ولا شك أنها بدايةٌ متواضعة، لكن هذه الحصة ستنمو مع تحسُّن البنية التحتية وظهور تقنيات جديدة، ورغم ذلك، تظل قنـاة بنما المسار الأكثر فاعلية لنقل البضائع بين المحيطين، أي إن ممر تيهوانتيبيك سيكون مُكمِّلاً لقناة بنـما، لا بديلاً عنها.

“تأمين سلاسل التوريد”

أتذكر ذلك المسار الرابط بين شنغهاي ونيويورك؟ يسعى البيت الأبيض إلى تقليل سعة وأهمية ذلك المسار، إذ بدأت الولايات المتحدة في فصل اقتصادها عن الصين منذ عام 2016، وأصبحت تشجع الشركات على تقليص ارتباطها ونقل عملياتها إلى أماكن أقرب. يُطلق على هذه العملية اسم “تقريب مواقع الإنتاج” وتعتمد على نقل سلاسل توريد الشركات الأمريكية، إما إلى داخل الولايات المتحدة أو إلى الدول القريبة. ومن المقرر أن تحقق المكسيك استفادةً كبيرة من هذا التحول، إذ إن لديها حدوداً مع الولايات المتحدة بطول 3,145 كلم، بما في ذلك 50 معبراً حدودياً في ثلاث مناطق زمنية مختلفة.

لا عجب في أن العلاقات التجارية بين البلدين قويةٌ للغاية، وهذا يفيد المكسـيك على نحوٍ خاص. فمنذ انضمامها إلى اتفاقية نافتا عام 1994، حوّلت المكسيك تركيز اقتصادها من الزراعة والنفط إلى تصنيع السلع كثيفة العمالة، وأدى الفائض التجاري نتيجة اتفاقية نافتا إلى زيادة احتياطيات النقد الأجنبي المكسيكية، فارتفعت من 6.4 مليار دولار عام 1994 إلى 214 مليار دولار بحلول 2023. وترك هذا الارتفاع تأثيراً كبيراً على الاقتصاد، فقد تحسنت مزايا التوظيف بدرجةٍ كبيرة، وظهرت قطاعات جديدة تتطلب معدلات مهارة أعلى من وظائف الزراعة والوظائف التقليدية قليلة المهارة. ومع زيادة هذه الوظائف عالية المهارة، بدأ تشجيع الموظفين للحصول على تدريب وتعليمٍ أعلى.

  • أحرزت القوة العاملة المكسيكية تقدماً ثابتاً على صعيد المهارة، والحجم، والنطاق
  • تحوّلت العديد من مناطق المكسيك الشمالية المجاورة للحدود إلى مراكز تصنيع للولايات المتحدة
  • يظهر هذا النشاط الاقتصادي على الخريطة، إذ نرى في شمال المكسيك نشاطاً اقتصادياً أكبر بكثير من نشاط المناطق الوسطى والجنوبية

وهذا أمرٌ رائع للغاية، لكن الخريطة نفسها تُسلط الضوء على مشكلةٍ كبيرة وهي تفاوت الثروة. فعلى سبيل المثال، تتشابه معدلات المعيشة في ولاية نويفو ليون مع بعض الدول الأوروبية، أما إذا اتجهنا نحو الجنوب الغربي لمسافة 400 كلم فقط، سنجد إجمالي الناتج المحلي إلى تعادل القوة الشرائية للفرد في ولاية زاكاتيكاس أقل بمرتين على الأقل. لطالما كان تفاوت الثروة يمثل مشكلة في المكسيك، وقد انهارت حكومات كاملةٌ لهذا السبب، سواءً عبر الثورات العنيفة أو الانتخابات الديمقراطية. وتسجِّل المكسيك اليوم ثاني أعلى معدلات تفاوت الدخل في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لهذا يُعد تقريب مواقع الإنتاج حلاً محتملاً للمساعدة في تقليص هذه الفجوة.

وتُعد المكسـيك فرصةً فريدةً من نوعها بالنسبة لسلاسل التوريد الرابطة بين شرق آسيا وشرق الولايات المتحدة، إذ توجد خطط لبناء عدة منصات لوجستية بطول ممر تيهوانتيبيك كما ترى هنا، وهذا يعني أنه أثناء رسو سفن الشحن وتفريغ الحاويات في القطارات من الممكن أن تتوقف بعض السلع في المنشآت المكسيـكية لمعالجتها، قبل تحميلها لتواصل رحلتها إلى الساحل المقابل. فقد جرى تشييد 10 مناطق صناعية حتى الآن، وستضم تلك المناطق منشآت تصنيع للأجهزة الكهربائية، والإلكترونيات، والمركبات، وقطع غيار السيارات، ووسائل النقل، والأدوية، والبتروكيماويات، أي إن الشركات المنتجة لقطع غيار الهواتف الذكية، والحاسوب، والسيارات تستطيع الانتقال إلى المناطق الصناعية المكسيكية لتصنع العناصر نفسها على مقربة من السوق الأمريكي.

ستحتفظ الصين بنقاط أفضليتها الرئيسية في الهندسة بالطبع، لكن ناتجها المحلي الإجمالي للفرد يقارب المكسـيك، ما يعني أن تكاليف العمالة في المكسيك ستكون مشابهةً لنظيرتها الصينية تقريباً. وسيحظى الاقتصاد بدفعةٍ كبيرة إذا انتقل إلى المكسيك جزء بسيط من الصناعات التريليونية في الإلكترونيات أو السيارات أو الأدوية أو أشباه الوصلات، وستكسب المكسيـك مليارات الدولارات من التجارة وإيرادات الرسوم. كما أن نقل وتقريب مواقع الإنتاج يمكن أن يقلل النفوذ الصيني ويعزز الاستقرار في المكسيك، وكلاهما من الأهداف التي تحظى بقبول قوي لدى المسؤولين الأمريكيين.

“القوة الاقتصادية الجديدة”

تنجذب الشركات حول العالم لفكرة الانتقال إلى المكسيك، وتُعد الإعفاءات الضريبية الكبيرة جزءاً من الأسباب، إذ أعلنت شركات تسلا، ويونيليفر، وبومباردييه، وديل، وبي واي دي عن خططها لافتتاح منشآت هناك، وتسير الأعمال على خير ما يرام. وقد وصلت الاستثمارات الأجنبية في النصف الأول من 2024 إلى رقمٍ قياسي بلغ 31 مليار دولار، وفي فبراير/شباط 2024، تغلبت المكسيـك على الصين لتصبح أكبر مورد سلع إلى الولايات المتحدة، ولا شك أن التداعيات الناتجة تتحدث عن نفسها.

فعلى صعيد نمو الاقتصاد الإقليمي، تعيش واهاكا فترة ازدهار بعد بدء تشييد العديد من المناطق الصناعية فيها. وفي عام 2023، نما اقتصادها بمعدلٍ مذهل بلغ 8.2%. من الواضح أن تقريب مواقع الإنتاج يُؤتي ثماره، ولا تقتصر فائدته على الشركات الأمريكية، بل تمتد إلى الشركات الصينية والأوروبية أيضاً. تفرض القوانين الأمريكية الجديدة تصنيع نسبة من السلعة داخل أمريكا الشمالية لإعفائها من التعريفات الجمركية، وعلى سبيل المثال، يجب تصنيع 75% على الأقل من السيارة داخل القارة لتصبح معفاةً من الجمارك الأمريكية، ولهذا تخطط شركة السيارات الكهربائية الصينية بي واي دي لإنشاء مصانع تجميع داخل المكسيك، ووضع ملصقات “صُنع في المكسيك” على سياراتها لتفادي التعريفات الجمركية.

وعلى المنوال نفسه، كلما زادت التعريفات الجمركية الأمريكية؛ زادت جاذبية تقريب مواقع الإنتاج إلى المكسيك، وهذا يعني أن المكسـيك هي أكبر المستفيدين من الحرب التجارية الأمريكية-الصينية، وقد يستمر هذا الوضع. إذ قدّرت الحكومة المكسيكـية أن المناطق الصناعية ستدر عليها استثمارات خاصة بنحو 50 مليار دولار بحلول 2050، كما ستوفر أكثر من 550 ألف فرصة عمل محلية، ويساعد هذا النمو في توزيع الثروة بعدالةٍ أكبر حول البلاد.

  • المناطق التي يمر بها ممر تيهوانتيبيك، مثل واهاكا وفيراكروز ومحيطهما، تُعد من أفقر مناطق المكسيك
  • الفرص الاقتصادية شحيحةٌ ومتباعدةٌ هناك
  • إن تحويل المنطقة إلى مركز لوجستي وصناعي يأتي ضمن مساعي الحكومة لخلق الوظائف وتعزيز الصناعات المحلية، فضلاً عن جذب المستثمرين الأجانب، خاصة في قطاعات مثل المركبات والإلكترونيات والسلع الاستهلاكية

لكن تظل هناك الكثير من العقبات، والكثير منها مبررة، إذ يعتمد نجاح المشروع على تنسيق الحكومة المكسيكية بين الإدارات الفيدرالية والولائية والمحلية. وقد عانت المكسـيك من هذه المركزية في السلطة طوال تاريخها، وهذا ليس أمراً هيناً كما يبدو، حيث يتقاطع الممر مع أنظمة بيئية ومجتمعات محلية مثلاً؛ وربما تُبدي جماعات السكان الأصليين والمنظمات البيئية اعتراضها عليه. علاوةً على أن المكسيك ليست أكثر الأماكن أماناً لاستضافة الشركات، وإذا شكلت الجريمة المنظمة أو الاضطرابات السياسية تهديداً لبنية الممر التحتية؛ فقد تنهار ثقة المستثمرين، وهذا يمنح العصابات المحلية والمسلحين المتطرفين قوة ضغط كبيرة عند التعامل مع الحكومة، ويجب على المكسيك السيطرة على الوضع بأي طريقة، لأن فقدانها السيطرة قد يتسبب في انتقادات شديدة لممرها.

وقد فعلت الحكومة ذلك تحديداً عام 2023، فنشرت نحو 1,000 جندي في المواقع الرئيسية لتأمين جزء من سكة حديدية قديمة تملكها شركة خاصة، هذا يعني أن الأمن ضروريٌ لنجاح الممر. وفي النهاية، تواجه المكسـيك التعقيدات نفسها التي تعانيها وجهات “تقريب مواقع الإنتاج” الأخرى، ومنها ارتفاع الأسعار، فوفقاً لغرفة صناعات البناء المكسيكية…أدى إعلان تسلا عن خطط بناء مصنعها في نويفو ليون إلى ارتفاع أسعار الأسمنت وحديد التسليح المحلية بنسبة 25%، بينما قفزت أسعار العقارات القريبة، كما ارتفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 20% محلياً،  ما زاد تكلفة العمالة، وإذا استمرت هذه الاتجاهات الصاعدة؛ ستخاطر المكسـيك برفع أسعارها لدرجةٍ تردع الشركات عن الانتقال إليها.

وبرغم المخاطر؛ ربما تؤتي المراكز اللوجستية والصناعية المكسيكية ثمارها، ففي المناطق النامية، من المحتمل أن يجلب النشاط الاقتصادي الجديد فرص توظيف ونمو ورخاء كما ستنخفض معدلات الفقر، ومن الممكن أن يُصبح الاقتصاد المحلي أكثر توازناً، قد تستغرق المكسيـك بعض الوقت لتصبح القوة الاقتصادية الجديدة، لكن تحقيق الثراء قد يكون أفضل طريقة لحل المشكلات أحياناً.