أعاد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بعد عودته إلى المشهد السياسي، تسليط الضوء على جزيرة جرينلاند، عبر تصريحات جدلية رفض خلالها استبعاد استخدام القوة العسكرية للسيطرة عليها. وبينما لا تُعد هذه المرة الأولى التي يُعبّر فيها ترامب عن رغبته في ضم الجزيرة الواقعة تحت السيادة الدنماركية، فإن السياق الجيوسياسي الحالي أكثر تعقيدًا، إذ تتداخل فيه مصالح استراتيجية وأمنية وتجارية، وسط تسارع التغير المناخي في المنطقة القطبية.
تشير الدراسات إلى أن القطب الشمالي شهد ارتفاعًا في درجات الحرارة أسرع بأربعة أضعاف من المتوسط العالمي خلال العقود الأربعة الماضية. ووفق توقعات علمية، يُرجّح أن يشهد منتصف هذا القرن أول صيف خالٍ من الجليد في التاريخ الحديث، وهو تحول يحمل تداعيات ضخمة على التجارة والأمن العالميين. وفي صلب هذه التغيرات، تبرز طرق جديدة للتجارة البحرية.
- أحدها هو الطريق البحري الشمالي الممتد على الجانب الروسي من مضيق بيرينغ حتى ميناء مورمانسك، بطول 5,300 كيلومتر، معظمها ضمن المياه الإقليمية الروسية.
- هذا الطريق يوفر مسافة تُقدّر بنحو 4,200 كيلومتر مقارنة بالمسارات الحالية بين آسيا وأوروبا.
- نقل في عام 2024 كمية قياسية بلغت 37.9 مليون طن من البضائع، مع توقعات روسية–صينية بارتفاعها إلى 150 مليون طن بحلول 2030.
- يمتد الممر الشمالي الغربي على الجانب الكندي بطول 5,700 كيلومتر.
وعلى الرغم من كونه أقل استخدامًا، إلا أن المسافة التي يختصرها مقارنة بقناة بنما تصل إلى 4,000 كيلومتر. غير أن هذا الطريق يواجه تحديات سيادية بين كندا، والولايات المتحدة، والدنمارك، إذ تؤكد كندا على سيادتها الكاملة عليه، بينما تعتبره واشنطن ممرًا مائيًا دوليًا. وتخشى الولايات المتحدة من أن أي اعتراف بسيادة كندا عليه قد يُشكّل سابقة قانونية تُضعف حرية الملاحة العالمية، وهي إحدى ركائز السياسة الأمريكية الخارجية.

جرينلاند في قلب المعركة
تمثل جرينلاند موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، ليس فقط لقربها من الطرق القطبية، بل أيضًا بسبب موقعها الفاصل بين المحيط الأطلسي والقطب الشمالي، عبر ما يُعرف بـ “ثغرة جي يو كي” (الممتدة من جرينلاند إلى آيسلندا فالمملكة المتحدة). وتُعد قاعدة “بيتوفيك” الجوية في شمال غرب الجزيرة، والتي كانت تُعرف سابقًا بقاعدة “ثول”، إحدى أهم ركائز الإنذار المبكر الأمريكي لمراقبة الصواريخ الباليستية والأنشطة الفضائية. لكن بحسب ما تراه القيادة الأمريكية، فإن هذا التواجد غير كافٍ. إذ تحتاج واشنطن إلى قواعد عمليات جوية متقدمة في جرينلاند لتعزيز قدراتها على مراقبة النشاط العسكري الروسي والصيني، خاصة مع تزايد التعاون بين موسكو وبكين في الدائرة القطبية.

رغم أن جرينلاند تُعد ثاني أكبر جزيرة في العالم، إلا أن عدد سكانها لا يتجاوز 56 ألف نسمة فقط، يعيش معظمهم في العاصمة “نوك”، ولا توجد طرق برية تربط بين المدن وخارجها. وتعتمد الجزيرة اقتصاديًا على الصيد بشكل أساسي، فيما يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي نحو ملياري دولار فقط. حصلت جرينلاند على الحكم المحلي عام 1979، وتوسّع لاحقًا إلى حكم ذاتي شامل في 2009، مع برلمان ورئيس وزراء منتخبين، لكن لا تزال شؤون الدفاع والسياسة الخارجية بيد الحكومة الدنماركية.
تاريخيًا، أشرفت الولايات المتحدة على الجزيرة خلال الحرب العالمية الثانية بعد سقوط الدنمارك بيد ألمانيا النازية، وبنت عدة قواعد عسكرية ومراكز مراقبة. ومنذ ذلك الوقت، بقيت جـرينلاند محورًا للأمن القطبي الأمريكي، وهو ما يفسر اهتمام ترامب وإدارته بها باعتبارها موقعًا لا غنى عنه في أي صراع مستقبلي في شمال الكرة الأرضية.
روسيا والصين: التحرك في الفراغ
بدأت روسيا منذ عام 2005 برنامجا واسعاً لتحديث وجودها العسكري في القطب الشمالي. وهي تمتلك حاليًا عددًا أكبر من القواعد البرية والجوية مقارنة بالناتو في المنطقة، فضلاً عن أسطول ضخم من كاسحات الجليد يشمل 8 كاسحات نووية و33 تعمل بالديزل. فيما كثّفت الصين نشاطها في المنطقة، وأبرمت تفاهمات مع روسيا لتأمين طرق التجارة والاستثمار في البنى التحتية، في ما يبدو أنه مسعى مشترك لفرض توازن جديد في شمال الكرة الأرضية. وقد بدأت الدولتان بتنفيذ دوريات بحرية قرب المياه الأمريكية لإبراز حضورهما العسكري.
ليست الجغرافيا وحدها ما يجذب واشنطن إلى جرينلاند.
- وفق هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، تحتوي الجزيرة على أكبر احتياطي غير مستغل في العالم من المعادن الحرجة
- تشير البيانات إلى وجود 43 من أصل 50 معدنًا حرجًا يستخدم في التقنيات المتجددة والدفاعية
- تسيطر الصين على 60% من معادن الأرض النادرة
- تُصدّر نحو 90% من السوق العالمي
- قامت مؤخرًا بفرض قيود على تصدير معادن مثل الإثمد والغاليوم، ما أدى إلى قفزات هائلة في أسعارها، حيث وصل طن الإثمد إلى 47,500 دولار
- يُعد هذا المعدن حيويًا لإنتاج الذخيرة، والصواريخ، والإلكترونيات العسكرية، ما يُشكّل تهديدًا حقيقيًا لقدرات الناتو حال انقطاع إمداده.
أزمة داخل الناتو
تصريحات ترامب لم تمر مرور الكرام في الدنمارك. فقد أحدثت صدمة في بلدٍ طالما كان من أوثق حلفاء أمريكا، وشارك في أغلب عملياتها العسكرية. وردًا على الخطاب، أعلنت كوبنهاغن عن خطة لتعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي بقيمة ملياري دولار، ضمن خطة تسليح مدتها 10 سنوات بتكلفة 26 مليار دولار، تشمل شراء مسيّرات وسفن حربية وأقمار صناعية. لكن واشنطن ترى أن الدنمارك تفتقر إلى الموارد، وكندا تفتقر إلى الإرادة السياسية، مما يجعل جرينلاند عرضة للاختراق الصيني، خاصة عبر استثمارات البنية التحتية التي قد تفتح الباب لـ”دبلوماسية فخ الديون”.
تعيش الجزيرة مرحلة سياسية حساسة. فمنذ 2009، حصلت على حكم ذاتي موسّع، وبدأت المطالبات بالاستقلال الكامل تتزايد. تشير استطلاعات إلى أن 67% من سكانها يؤيدون الاستقلال، وقد جرى بالفعل إعداد مسودة دستور في 2023 تمهيدًا لذلك. لكن التدخلات الأمريكية والصينية تعقّد هذا المسار، خاصة مع حاجة جرينلاند إلى استثمارات أجنبية. أي انزلاق في هذا التوازن قد يجعل الجزيرة ميدان صراع نفوذ دولي بين القوى الكبرى.