الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العام 2050
مآلات - يوليو 2020

تنوع اقتصادي وتضخم ديمغرافي شبابي ومياه ستُزعزع استقرار المنطقة

موجز تنفيذي

●     ستواصل دول المنطقة تنويع اقتصاداتها والابتعاد عن اعتمادها الكبير حالياً على “الهيدروكربونات”، وهو ما سيُقلّل ضعف المنطقة في مواجهة الدورة الاقتصادية الخاصة بالسلع المُتقلّبة. ونُؤكّد رغم ذلك على أنّ التقدّم سيكون تدريجياً في ظل وجود بعض الاقتصادات (مثل الإمارات وقطر وربما السعودية) في وضعيةٍ أفضل للتوسّع في مجالات جديدة مقارنةً بالدول الأخرى (مثل الكويت).
●     ستزداد أهمية الروابط مع آسيا، والصين تحديداً، بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ورغم الطبيعة الاقتصادية الخالصة للأمر، في البداية على الأقل، لكن من المرجّح أن تُؤثّر الدول الآسيوية الكبرى على الديناميات السياسية والأمنية للمنطقة بحلول عام 2050.
●     ستظل المخاطر على الاستقرار السياسي مُرتفعة نتيجة التوتّرات الطائفية المستمرة، وتغيّر المناخ، وازدياد نسب الشباب بين السكان في كافة أنحاء المنطقة. وفي حين أنّ هذا المكسب الديمغرافي قد يدفع عجلة النمو في بعض الدول، لكنّ الفشل في توفير فرص عمل كافية داخل العديد من دول المنطقة سيفرض تحدّيات خطيرة.
●     من المرجّح أن يتغيّر نموذج الحوكمة القائم حالياً في العديد من الدول الكبرى داخل المنطقة بحلول عام 2050، وهو ما سيترك أثره على السياسة المحلية وتحالفات السياسة الخارجية في الوقت ذاته.

تقديم

أصدرت مؤسسة (Fitch Solutions) لأبحاث المخاطرة السياسية، ابريل الماضي، نسخة محدثة لدراستها المستقبلية (Towards 2050: Megatrends In Industry, Politics and The Global Economy)، استعرضت فيها الاتجاهات الكبرى في الصناعة والسياسة والاقتصاد بعد ثلاثة عقود من الآن، والتي تشير إلى تضخم بعض هذه الاتجاهات وتسارع البعض الآخر في عالم ما بعد كورونا. فيما يلي نستعرض أبرز ما خلصت إليه الدراسة بخصوص مستقبل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، علماً أن هذه الدراسة يتم تحديثها سنوياً من قبل فرق متخصصة في دراسة مظاهر التحول المستجدة في جميع دول العالم، وتعتبر من أهم التقارير التي تفصل بشكل علمي ومنهجي التحوّل المتوقع في السياسة والاقتصاد الدوليين. 

التركيبة السكانية (الديمغرافيا): ستظل بطالة الشباب مصدراً رئيسياً لعدم الاستقرار

  • على مدار العقود المُقبلة، سيظل الاستقرار الاجتماعي والسياسي معتمداً بشكلٍ كبير على قدرة الحكومات على حلّ التحدّيات الديمغرافية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويبلغ العدد الإجمالي لسكان المنطقة حالياً نحو 465 مليون نسمة، وبحلول عام 2050 تتوقّع منظمة الأمم المتحدة أن يصل التعداد إلى نحو 654 مليوناً.
  • اقتصادات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سوف تُعاني من هذه الديناميات الديمغرافية، وسيُمثّل ضعف فرص العمل، خاصة للشباب، سبباً رئيسياً للمخاوف. القليل من الدول الصغيرة، مثل الكويت وقطر والإمارات، تُفلت من لعنة ارتفاع بطالة الشباب التي وصلت في دول أخرى مثل الأردن إلى 35%.
  • فضلاً عن أنّ عدم توفير الوظائف الكافية يُشكّل مخاطر كبيرة على الاستقرار الاجتماعي، نظراً لكونّه المُحرّك الرئيسي للاضطرابات الشعبية (المعروفة بالربيع العربي) في عام 2011. خاصة في البلدان التي تضم الكثير من الشباب وتواضع في مستويات المعيشة. وتتجلّى هنا دولٌ مثل العراق ومصر، لتُشكّل مصدر قلقٍ كبير، إذ أن اضطرابات شعبية واسعة النطاق فيها ستُؤدّي إلى تداعيات إقليمية كبيرة. ورغم أنّ ملكيات الخليج تبدو في موقعٍ أفضل بفضل احتياطياتها المالية القوية، فإنها تعيش أيضاً مرحلةً انتقالية بالتزامن مع سعيها لخفض التوظيف في القطاع الحكومي وتحسين جودة أنظمتها التعليمية. وحتى الآن، اتّخذت تدابير الحدّ من السخط الشعبي صورة المنح النقدية والوعود بتوفير الوظائف الحكومية، وهو الأمر الذي لن يحُل مشكلة ارتفاع معدلات البطالة على المدى البعيد. ولا شكّ أنّ الأتمتة قد تُهدّد الوظائف أكثر مستقبلاً داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
  • ونحن نُؤمن أنّ هذه الديناميات ستُشجّع على الهجرة إلى المناطق الأكثر تقدُّماً. وتحديداً فإنّ هجرة الأفراد ذوي المهارات العالية -من المُتأثّرين بارتفاع البطالة- ستكون لها آثار سلبية بعيدة المدى على رأس المال البشري ومعدلات الإنتاج في كافة أنحاء المنطقة. وسيُحدّ هذا الأمر بدوره من القدرة على التحرّك في اتّجاه الاقتصادات القائمة على “المعرفة”، الذي تطمح إليه العديد من حكومات المنطقة.

تغيّر المناخ سيُؤجّج عدم الاستقرار الاجتماعي

  • بحلول عام 2050، من المتوقّع ارتفاع متوسط درجات الحرارة في المنطقة بنحو ثلاث درجات مئوية، مع المزيد من الموجات الحارّة المُتكرّرة، وازدياد تواتر الأحداث المناخية القاسية. ونعتقد أنّ سوء إدارة الظروف المناخية يُمكن أن يتحوّل إلى مصدرٍ للاستياء الشعبي الكبير، أو ربما يُسلّط الضوء على الفساد في القطاع العام. وخير مثالٍ على ذلك فيضانات مدينة جدة عام 2009. وتُشكّل هذه الحالات مخاطر مُتزايدة على حكومات المنطقة. كما أنّ الاحتباس الحراري ربما يكون له تأثيره السلبي على قطاع الزراعة، ما سيشجّع على الهجرة من الريف إلى الحضر، مما يفاقم مشكلة بطالة الشباب.
  • فضلاً عن أنّ الوصول إلى الموارد الطبيعية، مثل الماء والغذاء، سيصير كذلك مصدراً للتوتّرات الجيوسياسية. وتُمثّل نُدرة المياه بالفعل مصدر قلق كبير في كافة أرجاء المنطقة التي تُعاني من الإجهاد المائي بحسب المعايير العالمية. إذ تضُم نحو 5.9% من إجمالي سكان العالم، في حين تمتلك أقل من 0.6% من إجمالي موارد الماء العذب المُتجدّدة. كما أنّ النمو السكاني سيزيد تفاقم المُشكلة، ما سيُسفر عن زيادة التوتّرات بين الحكومات حول الوصول إلى موارد المياه العذبة. وبشكل أكثر تحديداً، نُسلّط الضوء هنا على دول وادي النيل في مصر والسودان وإثيوبيا، بوصفها بؤرة توتّر رئيسية.
  • وسيُمثّل الأمن الغذائي تحدّياً رئيسياً آخر. إذ تستورد المنطقة نحو 30-35% من إجمالي احتياجاتها الغذائية، مع اعتمادٍ على الاستيراد بنسبةٍ تصل إلى 90% في دولةٍ مثل قطر. وما يُثير القلق أكثر هو أنّ المنطقة تستورد نحو 50% من الحبوب، التي تُشكّل جزءاً مُهماً في الأنظمة الغذائية للأُسر الأكثر فقراً، ويتركها عرضةً لتقلّبات الأسعار واضطرابات التجارة. ورغم اعتماد الدول المستوردة للنفط والدول غير الخليجية المُصدِّرة للنفط على الواردات الغذائية بدرجةٍ أقل نسبياً، لكنّها مُعرّضة لخطرٍ أكبر.
  • وعلى الجانب المُضيء، يُمكن أنّ يخلق تغيّر المناخ حوافز للحكومات للانتقال بعيداً عن الهيدروكربونات، وتفضيل أشكال الطاقة الأكثر استدامة. إذ تعكف الإمارات حالياً على تطوير مدينة مصدر، التي من المنتظر أن تصير مركزاً للتقنيات الخضراء. في حين أطلقت السعودية رسمياً مشروع “نيوم”، ويسعى المغرب لأن يصير مركزاً للطاقة الشمسية. وفي الوقت ذاته يُمكن أن يُشجّع ذلك على التعاون في القضايا البيئية، الأمر الذي ربما تكون له آثاره الإيجابية على الاستقرار السياسي العام في المنطقة.

التنويع: الخليج يُحرز تقدّماً بعد طول انتظار

  • وعلى نحوٍ أكثر إيجابية، نحن نعتقد أنّ العقود الثلاثة المُقبلة ستشهد تقدّم دول مجلس التعاون الخليجي الست -السعودية والإمارات والكويت وقطر وعمان والبحرين- في اتّجاه التنويع الاقتصادي بدرجةٍ ملموسة، ما سيسمح لها بخفض اعتمادها على قطاع الطاقة بعد طول انتظار. ولا يُمثّل التنويع هدفاً جديداً لتلك الدول، لكن مع استثناء جزئي في حالة الإمارات (أو دبي تحديداً) والبحرين؛ نجد أنّ الدول الخليجية حالياً لا تتمتّع باقتصاد مُتنوّع قادر على العمل دون دعم قوي من الإنفاق الحكومي.
  • وفي حين تُوجد بعض المخاطر حال استرداد أسعار النفط لعافيتها، نعتقد أنّ التغيير الديمغرافي سيُؤدّي دوره لدفع عجلة التنويع. فمع دخول أعداد كبيرة من الشباب في القوى العاملة، سيتعرّض نموذج اعتماد دول الخليج على النفط لأجل دفع الإيرادات المالية ودعم سكانها بالضرائب المنخفضة ووظائف القطاع العام وتوفير الخدمات عالية المستوى، لضغوطات متزايدة، بما سيستدعي التقدُّم المستمر في اتّجاه الإصلاح.
  • وفي الوقت ذاته نشهد صعود جيل جديد من القادة إلى السلطة في دول مثل السعودية وقطر وأبوظبي، أبدوا التزاماً بالإصلاح، حتى وإنّ كان ذلك يتعارض مع المؤسسات السياسية والدينية. ونعتقد أن إصلاحاتهم سيكون لها تأثير بعيد المدى على المنطقة. كما ستبدأ الاستثمارات التي أُدخِلَت على البنية التحتية المادية ورأس المال البشري في إدرار العوائد، خاصةً فيما يتعلّق بالصناعات الثقيلة والأساسية والرعاية الصحية والتجارة. كما سترتفع نسبة المواطنين الخليجيين في القوى العاملة (مقارنةً بالوافدين).
  • وهذا لا يعني أنّ التقدّم سيكون سريعاً أو شاملاً، إذ إنّ تحقيق درجةٍ عالية من تعقيد الصادرات، أو التحرّك في اتّجاه اقتصاد قائم على المعرفة -الهدف المُعلن في دول مثل قطر- سيتطلّب عقوداً من الجهود المستمرة وتنسيق الجهود العامة والخاصة. وسيكون الاستثمار في جودة التعليم أمراً حيوياً. لأنّ البلدان التي فشلت في تحريك مشاريع الاستثمار سريعاً خلال السنوات الأخيرة، مثل الكويت، ستُواصل تخلّفها عن الركب على الأرجح. ومع ذلك، نعتقد أنّ الخليج سيتمتّع بهياكل اقتصادية أكثر ابتكاراً وديناميكية وتنوعاً بحلول عام 2050.

سيتغيّر شكل الأنظمة السياسية

  • بحلول عام 2050، نعتقد أن نموذج الحوكمة القائم حالياً في العديد من الدول الكبرى بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سيكون قد تغيّر على الأرجح، مع تداعيات سياسية واقتصادية مُهمة. ومع أن الأنظمة الملكية في المنطقة قد انتفعت من الاستقرار السياسي خلال السنوات الأخيرة، حتى في أعقاب “الربيع العربي” الذي أسقط حكومات مصر وليبيا وتونس، إلا أنّه من المستبعد أن تبقى الأساسيات الكلية التي تدعم استقرار تلك الأنظمة ومؤسساتها ثابتة.
  • وبشكلٍ حاسم، فإن ملكيات الخليج اعتمدت بشكلٍ كبير على استغلال موارد “الهيدروكربونات” الوافرة في إرضاء شعوبها والحد من المطالبات بالإصلاح السياسي، لدرجة أنّ الدول ذات الموارد الأقل نسبياً، مثل البحرين، كانت تحصل على دعم الحلفاء الإقليميين. ولكن في ظل تزايد أعداد الشباب في الخليج الذين يحتاجون وظائف، ومحدودية موارد النفط والغاز لتلك الدول؛ فإنّ الحاجة الحتمية إلى الإصلاحات السياسية ستبدأ على الأرجح في الضغط على العقد الاجتماعي الذي حافظ على شكل الحكومة الحالي. ولا يُمكن استبعاد فكرة الانتقال العنيف للسلطة، رغم أنّنا نعتقد أنّ العائلات الملكية في تلك الدول ستنخرط على الأرجح في تحوّلٍ بطيء تُجاه مشاركة السلطة بقدرٍ أكبر مع الهيئات التشريعية المُنتخبة.
  • وسنشهد مسار تغيير سياسي مُماثل في دول مثل الأردن والمغرب، مع الاعتراف بوجود اختلافات بين كيفية عمل تلك الملكيات وبين ملكيات دول الخليج، ففي الأردن والمغرب تحديداً قدّمت القيادة تنازلاتها بالفعل لصالح البرلمانات المُنتخبة من أجل مشاركة بعض السلطات. ولكن بحلول عام 2050، هناك احتمالية لاستمرار الانتقال المُتواضع للسلطة السياسية، وربما يُؤدّي ذلك في النهاية إلى وجود ملكيات دستورية حقيقية يتمتّع داخلها الملك أو الملكة بسلطةٍ صورية فقط. 
  • كما أنّ إيران يُحتمل أن تشهد تحوّلاً سياسياً كبيراً، رغم القناعة بأنّ الانتقال السلس بالكامل هو أمرٌ مُستبعدٌ بعض الشيء. حيث أنّ المزج بين النمو الاقتصادي الراكد وبين السخط المُتنامي حيال محدودية الحريات الاجتماعية والسياسية سيُؤدّي في إطارٍ زمني مُتعدّد السنوات إلى تحفيز الضغط الشعبي لزيادة الديمقراطية. وفي الوقت ذاته، ستحول التوتّرات مع الولايات المتحدة دون زيادة الاستثمارات الأجنبية بدرجةٍ كبيرة. وفي تلك الأثناء نجد أنّ التحرّر الاجتماعي الذي استغلّته دول الخليج لتجنُّب رد الفعل الشعبي على إعادة الهيكلة الاقتصادية، سيظل محظوراً في إيران على نطاقٍ واسع من جانب المؤسسة الدينية. ومع ذلك فإنّ التفاوت بين الآفاق الاقتصادية للإيرانيين، من مستخدمي الشبكات الاجتماعية، وبين آفاق أقرانهم حول العالم بات أكثر وضوحاً. وهذا من شأنه أن يُفاقم الاستياء ويزيد احتمالية اختلاف شكل حكومة إيران كثيراً عن شكلها الحالي بحلول عام 2050.
  • ونُؤمن كذلك باحتمالية بدء تحوّل تحالفات السياسة الخارجية بالتزامن مع تغيّر نماذج الحوكمة، وبينما سيتكاتف ملوك الخليج معاً في حال بدأوا جميعاً بالتحوّل إلى ملكيات دستورية، لكن التغيير الجذري في حكومة إحدى الدول (مثل الإطاحة بأحد الملوك والتحوّل إلى الديمقراطية) قد يُؤدّي إلى نبذها بين جيرانها. وعلى العكس، فإنّ بزوغ نظام جديد في إيران سيكتسب صداقة القوى الغربية وربما يشهد خروج البلاد من عزلتها النسبية، بحيث تكون إيران أكثر اندماجاً في الأسواق الاقتصادية والشراكات التجارية العالمية بحلول عام 2050.

التطلُّع شرقاً: تعميق روابط منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع آسيا

  • ستزداد أهمية الدول الآسيوية، وخاصةً الصين، بالنسبة لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مرّ العقود المُقبلة. وستكون هذه الأهمية ذات طبيعةٍ اقتصادية في الغالب أوّل الأمر. وبالنسبة لمُنتجي الهيدروكربونات ستصير آسيا وجهة التصدير الرئيسية (في ظل تراجع احتياجات الولايات المتحدة). وستتحوّل الصين إلى مصدر استثمارٍ رئيسي في المنطقة على نطاقٍ أوسع، بالتزامن مع سعي القيادة الصينية إلى بسط نفوذها الدولي وروابطها التجارية عبر مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق. وهذا الاستثمار، ناهيك عن الوصول إلى التكنولوجيا الصينية الأكثر تطوّراً، سيكون ضرورياً للمساعدة في تطوير اقتصادات المنطقة، خاصة الاقتصادات التي ترغب في تنويع مواردها. وفي الوقت ذاته سترتفع الصادرات الآسيوية (ذات التكلفة التنافسية) إلى المنطقة، بالتزامن مع ترسيخ الروابط التجارية بين المنطقتين.
  • وعلى المدى البعيد، فإنّ تعميق الروابط التجارية مع آسيا سيُؤثّر حتماً على الديناميات السياسية والأمنية في المنطقة. وفي الوقت الحالي تُعَدُّ الولايات المتحدة الوسيط الأكثر أهمية للقوى الخارجية في المنطقة لكونها لا تزال تتمتّع بمصالح قوية في تأمين تجارة الهيدروكربونات، وحماية “إسرائيل”، واحتواء إيران، ومكافحة “الإرهاب الإسلاموي”. وستعجز الدول الآسيوية عن تحدّي مكانة الولايات المتحدة لسنوات طويلة، نظراً لأنّ قدراتها العسكرية أقل بكثير من قدرات الجيش الأمريكي. وعلى أيّ حال، فإنّ غالبية تلك الدول لا تبدو مُهتمةً بفعل ذلك. إذ برهنت الصين مثلاً في أكثر من مناسبة على عدم رغبتها في الانحياز إلى أيٍّ من جوانب صراعات المنطقة، فضلاً عن رفضها القوي لزيادة وجودها العسكري هناك.
  • لكنّ كل ذلك من المحتمل أن يتغيّر على مدار العقود القادمة. إذ تتنامى المصالح الاقتصادية للدول الآسيوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبالتالي سترتفع حصتها في الاستقرار الإقليمي. ولهذا تزداد احتمالية توسيع قوى كبرى، مثل الصين والهند، لروابطها الاستراتيجية مع المنطقة وزيادة وجودها العسكري. وعلى سبيل المثال، افتتاح الصين قاعدةً عسكرية في جيبوتي عام 2017 (احتمال افتتاح المزيد لاحقاً)، ودراسة البحرية الهندية خيار الانتشار المُوسّع في المنطقة. ومن المُمكن أن تحذو حذوها دولٌ مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وإذا اختارت الولايات المتحدة الانفصال عن الخليج في يومٍ ما نتيجة التحوّلات الكبرى في الشراكات الاستراتيجية (إقليمياً وعالمياً)، أو الانكماشات الاقتصادية الشديدة، أو الدعم المُتنامي للانعزالية بين الأمريكيين. فهنا يُمكن لبعض القوى الآسيوية أن تختار على نحوٍ مفهوم التدخّل وسدّ الفجوة للدفاع عن مصالحها (إذا احتدت المنافسة الأمريكية الصينية مثلاً)، بزيادة دعمها وانخراطها مع دول المنطقة الحليفة.

التحوّلات الجيوسياسية ستفرض مخاطر كبيرة

  • ستظل المخاطر الجيوسياسية كبيرة في كافة أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مدار العقود المُقبلة. والأهم من ذلك هو غياب الطريقة الواضحة لخفض التوتّرات بين إيران والسعودية (والولايات المتحدة مؤخراً)، الذين وجدوا أنفسهم يخوضون حرباً مُحتدمة بالوكالة من أجل النفوذ في المنطقة، واتّخذ التنافس الجيوسياسي طابعاً طائفياً (شيعي-سني). وفي حين تتمتّع الرياض بدعم الولايات المتحدة والعالم الغربي، فإن طهران تحصل على دعمٍ كبير من روسيا التي كانت تسعى لتقوية علاقاتها مع الدول الإقليمية مثل سوريا والعراق. وبالتالي تعكس توتّرات المنطقة تنافسات عالمية أوسع نطاقاً. فحتى الآن، كانت الصين بعيدةً عن صراعات المنطقة، لكنّنا نتوقّع أن تصبح بكين أكثر نشاطاً دبلوماسياً (وربما عسكرياً) في المنطقة على مدار العقود المُقبلة. وكذلك تبدو الهند أقرب لسلوك الطريق نفسه، رغم أنّها قد تفعل ذلك في إطارٍ زمني أبطأ بكثير من الصين.
  • ورغم أنّ إيران أعلنت نفسها عدوةً للغرب منذ ثورة عام 1979، فإننا لا نتوقّع بالضرورة أن يبقى الوضع على ما هو عليه بحلول عام 2050. بل من المُحتمل في واقع الأمر أنّ التغييرات السياسية الداخلية في إيران خلال العقود الثلاثة المُقبلة ستدفع بطهران إلى التوصّل لنوعٍ من إعادة التقارب أو التكيّف مع القوى الغربية، مع الاحتفاظ بعلاقاتها الودية مع روسيا والصين. وهذا التحوّل الجيوسياسي قد يجعل من إيران الدولة الأكثر أهمية في المنطقة، بوصفها جزءاً رئيسياً من ممر نقل “الحزام والطريق” الخاص ببكين في أوراسيا. وفي الوقت ذاته لا يُمكننا استبعاد تحوّل السعودية جيوسياسياً بعيداً عن الغرب، رغم تحالفها معه لعقود طويلة، خاصةً في حال حدوث تغيير سياسي محلي كبير.
  • ونرى أنّ مصر كذلك ستُؤدّي دوراً أبرز في الجغرافيا السياسية الإقليمية بحلول عام 2050. وشهدت مصر استقراراً في عهد الرئيس السيسي منذ عام 2013، لكنها من المُحتمل أن تسعى لاسترداد نفوذها الإقليمي حتى وإنّ تغيّر النظام السياسي، في ظل عدم استبعادنا لإمكانية اندلاع “ربيع عربي” جديد خلال العقود المُقبلة. ويُشير موقع مصر الحيوي بين العالم العربي، وإفريقيا، والبحر المتوسط إلى أنّها ستظل في كنف القوى الكبرى العالمية.
  • وفي بُقعةٍ أخرى من الخريطة نجد أنّه من الصعب التنبُّؤ بحلٍّ سلمي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بحلول عام 2050، إلّا في حال غيّرت الولايات المتّحدة موقفها الداعم لإسرائيل فجأة أو قرّرت القوى الكبرى العالمية الأخرى -مثل الصين- الانضمام إلى عملية السلام بنهاية المطاف. وببقاء الوضع على ما هو عليه من تدهورٍ سريع في العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية، نتوقّع اندلاع انتفاضةٍ ثالثة خلال السنوات القليلة المُقبلة، وهو ما سيزيد تدهور العلاقات بين الجانبين لسنوات طويلة مُقبلة. ومن المُرجّح أن تُواجه “إسرائيل” ضغوطات ديمغرافية متزايدة من الفلسطينيين، الذين تتزايد أعدادهم أسرع بكثير من الإسرائيليين. ولا تتمنّى “إسرائيل” أن تجد نفسها في موقف خطير نتيجة حدوث تحوّل سياسي كبير في مصر، أو الأردن، أو السعودية بما يجعل واحدةً أو أكثر من تلك الحكومات تزيد دعمها للفلسطينيين، ما سيزيد الضغط على “إسرائيل” بالتبعية.
  • وختاماً، نرى خطراً مُحتملاً آخر بحلول عام 2050 ينطوي على تعديل الكثير من حدود منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالعنف في غالبية الأحيان. ونخص بالذكر هنا عدم الاستقرار الذي تشهده سوريا والعراق منذ فترةٍ طويلة، بما قد يُؤدّي في النهاية إلى ظهور الدولة الكردية التي يُمكن أن تضُم أجزاءً من جنوب شرق تركيا، رغم أنّ ذلك سيحدث فقط على الأرجح إذا حدث تحوّلٌ سياسي داخل تركيا في اتجاه موقفٍ أكثر ودية مع الأكراد. كما يُمكن أن يتعرّض اليمن للتقسيم إلى جزئين شمالي وجنوبي بموجب معاهدة سلام في النهاية، خاصةً بالنظر إلى الدعم الذي تُقدّمه الإمارات للانفصاليين في الجنوب. وربما تشهد السعودية نزعةً انفصالية، أو تراجعاً في سلطتها على الأقل، في المنطقة الشرقية. ورغم أنّ القوى الكبرى العالمية لا تبدو مستعدةً لتشجيع إعادة رسم حدود الشرق الأوسط في المستقبل المنظور، لكن الكثير يُمكن أن يتغيّر بحلول منتصف القرن الجاري.