تواجه واحدةٌ من أكبر عمالقة إنتاج الطاقة في العالم أزمة طاقة كاملة. ففي جميع أنحاء إيران، تعمل المدارس والجامعات والمصارف ومكاتب الحكومة حسب جداول زمنية لترشيد الاستهلاك، بينما أغلق بعضها أبوابه تماماً لأيام متتالية. وفي الوقت ذاته، غطى الظلام بعض الطرق السريعة ومراكز التسوق. ويرجع السبب إلى عجز في الغاز الطبيعي بمعدلٍ يتراوح بين 260 و350 مليون متر مكعب يومياً، إلا أن المسألة أكبر من ذلك.
إذ تعتمد جميع محطات الطاقة الإيرانية تقريباً على الغاز الطبيعي لإنتاج الكهرباء، لكن الشتاء الحالي شديد البرودة، ما أدى لارتفاع الطلب على التدفئة المرتبطة بالغاز الطبيعي. ولتلبية ذلك الطلب، أغلقت الحكومة الإيرانية أكثر من 12 محطة توليد كهرباء لتقليل استهلاك الغاز الطبيعي.
وربما نجحت الخطوة في حماية الإيرانيين من التجمُّد برداً، لكنها تركت بعضهم في الظلام. ولم يقدم الرئيس الإيراني حلاً سوى الاعتذار، ومناشدة مواطنيه لخفض متوسط درجات التدفئة في منازلهم بدرجتين مئويتين، حتى يتجاوزوا الشتاء.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو أسباب معاناة عملاقة الطاقة إيران من نقص الغاز الطبيعي
“على حافة الشغب الممنهج“
تقول بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية إن إيران جنت عائدات نفطية بقيمة 253 مليار دولار بين عامي 2018 و2023، وذلك بواقع 144 مليار دولار في أول ثلاث سنوات لإدارة بايدن، و109 مليارات في آخر ثلاث سنوات لترامب. ويُعَدُّ هذا القدر من المال ضخماً في ظل العقوبات المفروضة، إذ كان بوسع إيران إنفاق ذلك المال على تجديد بنيتها التحتية وتطبيق إصلاحات اقتصادية، لكنها أنفقت الكثير منه على مشاريعها الجيوسياسية عالية العائد والمخاطر.
- أرسلت ما يتراوح بين 30 و50 مليار دولار إلى سوريا لدعم نظام الأسد
- أنفقت أكثر من 20 مليار دولار على بناء شبكة وكلائها بطول الشرق الأوسط، وهذا يشمل حزب الله في لبنان، والحوثي في اليمن، ومختلف الميليشيات الشيعية في العراق.
لكن تغيير الحكومة في سوريا جعل كل تلك الجهود، وعشرات المليارات من الدولارات، تضيع هباءً، فقد خرج الجسر البري بين طهران ووكلائها من الخدمة الآن. وفي غياب ذلك الجسر الرابط؛ ستتآكل قدرات وكلاء إيران بوتيرةٍ ثابتة، لأنها ستعجز عن إمدادهم بالأسلحة، هذا يعني أن نحو ربع عائدات النفط التي جنتها إيران بين 2018 و2023 قد ضاعت اليوم، ولم يستفد الإيرانيون منها شيئاً.
بينما كان من الممكن استثمار ذلك المال محلياً لترقية وتحسين شبكة الكهرباء وخطوط الأنابيب، مع تنويع مصادر أمن الطاقة، لكن القيادة الإيرانية اختارت تجاهل بنيتها التحتية المتداعية، التي تمثل أزمةً متفشيةً في جميع صناعاتها تقريباً.
تمتلك إيران واحدةً من أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي والنفط الخام في العالم، لكن تقنيات الحفر والبنية التحتية الإيرانية ليست كافيةً لتلبية احتياجاتها. ولنلق نظرةً على حقل غاز الشمال (فارس الجنوبي) كمثال.
- يُعد حقل غاز الشمال أكبر حقل غاز طبيعي في العالم
- تتقاسمه إيران مع قطر
- يمد إيران بأكثر من 70% من غازها الطبيعي
- الإنتاج على الجانب الإيراني بطيئ، بينما الإنتاج القطري منتعش
- حالت العقوبات دون وصول شركات الطاقة الحكومية الإيرانية إلى التقنيات الأجنبية بالكامل تقريباً
وربما يساعد هذا في تحقيق الاكتفاء الذاتي، لكنه يمكن أن يعيق النمو والتطور أيضاً، وحين يستمر وضع كهذا لفترةٍ كافية؛ تتحول المشكلات البسيطة إلى وباءٍ متفشٍ. فعلى الجانب الإيراني من حقل غاز الشمال مثلاً، لا توجد معدات لحرق الغاز، وحرق الغاز هو عملية تحرق الغاز الطبيعي الفائض، الذي ينبعث أثناء عملية الحفر بحثاً عن الوقود، ويجري جمع، وتخزين، ونقل هذا الغاز الفائض على الجانب القطري، بينما لا تملك إيران البنية التحتية اللازمة، لذا يبتلع الغلاف الجوي غازها الفائض، وقد تبدو هذه التفصيلة صغيرة، لكنها ليست كذلك في الواقع.
إذ تحتل إيران المرتبة الثانية على العالم في حرق الغاز، وتخسر سنوياً نحو 21 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهذا رقم مهول. وبالمقارنة، سنجد أن هذا الكم من الغاز الطبيعي يعادل نحو نصف استهلاك أستراليا، أو نحو 30% من استهلاك الهند. ولو توافرت بنية تحتية مناسبة؛ يمكن لهذا الغاز المحروق أن يسد عجز الطاقة ويمد ملايين البيوت الإيرانية بالتدفئة، لكن الغاز المحروق يتبخر في الهواء بدلاً من ذلك، هذا مجرد مثالٍ واحد على أوجه القصور الفنية العديدة التي تفشّت في قطاع الطاقة الإيراني.

“رائحة الثورة في الأجواء”
قد تتعثر الحكومات، لكن المجتمع هو الذي يرسم معالم الأرض التي تطأها الحكومة، ويتحمل المجتمع جزءاً من المسؤولية عن مشكلات إيران، إذ يعيش الشعب الإيراني على الدعم الحكومي، ويتوافر النفط والغاز للإيرانيين بأسعار زهيدة تجعلهم يستهينون بالمسألة.حيث يصل سعر لتر البنزين في المحطات إلى نحو 36 سنتاً، بالعملة الأمريكية، ويمكن القول إن الحياة داخل الجمهورية الإسلامية صعبة، لكن أسعار النفط والغاز الرخيصة قد تكون من المزايا القليلة التي تجعل تلك الحياة مُحتملة. هكذا ترى قيادة طهران الأمر، ولهذا يمولون الأسعار المنخفضة بالدعم الحكومي.
وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2022، أنفقت إيران 163 مليار دولار على دعم الطاقة، أي ما يعادل أكثر من 27% من ناتجها المحلي الإجمالي. لا توجد دولة أخرى تدعم الأسعار بهذا القدر، والأسباب منطقيةٌ بصراحة، لكن الإيرانيين يستهينون بالمسألة رغم ذلك، فالدعم قائم منذ زمنٍ بعيد لدرجة أن غالبية الإيرانيين لا يعرفون الأسعار الحقيقية، ويعتبرون النفط والغاز الرخيصين حقَّاً مكفولاً.
حاولت الحكومة تخفيض دعم الطاقة آخر مرةٍ في عام 2019، فقفزت أسعار الوقود بين عشيةٍ وضحاها، ما زاد تضخم الاقتصاد، وخلال أيام، نزل الشعب إلى الشوارع للاحتجاج، وخرجت إلى العلن كل المظالم المتراكمة ضد الجمهورية الإسلامية منذ عقود.
- اندلعت تظاهرات حاشدة في أكثر من 100 مدينة إيرانية
- أضرم المحتجون النار في المباني الحكومية مطالبين بإنهاء الفقر، والفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، ناهيك عن إنهاء الجمهورية الإسلامية نفسها.
- شهدت الاحتجاجات حرق صور المرشد الأعلى والرئيس آنذاك
- طالب المتظاهرون باستقالة البرلمان وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية
- أعرب الإيرانيون في عشرات المدن عن معارضتهم لتورط بلادهم في الصراعات الإقليمية، والخطاب الحكومي المعادي للولايات المتحدة
- احتج البعض على إسقاط طائرة رحلة الخطوط الأوكرانية رقم 752
ويُمكن القول إجمالاً إنها أسوأ اضطرابات اجتماعية شهدتها إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979، فقد ظهرت كل التجاوزات التي ارتكبتها الدولة على الملأ، وأسفر هذا عن مقتل المئات واعتقال الآلاف، أي إن العملية التي بدأت في صورة إصلاح اقتصادي لتخفيض دعم الطاقة، أسفرت عن أعمال شغب ثورية هددت المرشد الأعلى نفسه.
لا تريد إيران تكرار تلك التجربة مرةً أخرى، لكنها لا تستطيع الاستمرار في دعم فواتير الطاقة للأبد أيضاً، علاوةً على ذلك، تأتي أزمة الطاقة الإيرانية في أسوأ وقت ممكن، بينما تعيش البلاد ظروفاً جيوسياسية مضطربة، ومن الواضح أن المسؤولين الإيرانيين يدركون حساسية الوضع. إذ مرر البرلمان قانون حجاب جديد يفرض عقوبات أكثر صرامة على المرأة غير الملتزمة بقواعد اللباس الإلزامية، لكن ذلك القانون لم يُطبَّق بعد، فيما ضغط الرئيس الإيراني لإلغائه قائلاً إنه قد يأتي بنتائج عكسية ويثير اضطرابات عامة.
وبعيداً عن الخطاب العام حول قوانين الشريعة الإسلامية وتطبيقها؛ سنجد الإيرانيين عالقين في صراع تصعيدي مع الاحتلال الإسرائيلي أيضاً، وشهد هذا الصراع تبادل الهجمات المباشرة على أراضيهما، بينما تبدو الأوضاع أكثر غموضاً اليوم مع إدارة ترامب المقبلة.
فخلال ولايته الأولى، شن ترامب حملة ضغط قصوى على إيران، وفرض عقوبات قاسية على برنامجها النووي، واستهدفت العقوبات الأمريكية صادرات النفط والمصارف والشحن وغيرها، وتضافرت معاً لشل الاقتصاد الإيراني. لكن الأوضاع قد تسوء أكثر هذه المرة، فكما أوضحنا في فيديو سابق، تُنشئ حكومة الاحتلال ممراً جوياً يسمح لها بضرب عمق الأراضي الإيرانية، وتدمير منشآتها العسكرية والنووية. وفي الوقت ذاته، يضغط نتنياهو على البيت الأبيض حتى يزيد الضغط على إيران.
كما كان لإسرائيل يدٌ في أزمة الطاقة الإيرانية الحالية أيضاً، إذ لا يعرف الكثيرون أن شهر فبراير/شباط 2024 شهد تفجير القوات الجوية الإسرائيلية لخطي أنابيب في إيران، وذلك خلال ضرباتهم الانتقامية. وعجزت إيران عن إصلاح الأضرار في الوقت المناسب، فلجأت في صمت إلى احتياطيات الطوارئ لتجنب قطع الخدمة عن ملايين المواطنين.
وبحلول وقت انتخاب الرئيس الجديد في يوليو/تموز؛ ورث دولةً لديها مخزون طاقةٍ مستنفد يعجز عن تجديده، لكن هذه الحادثة كانت مصدر سرور لإسرائيل، إذ تضافر عاملان معاً ليُكوِّنا عاصفةً مثالية: أزمة الطاقة وعودة ترامب، ولو قرر الاحتلال شن ضربة استباقية الآن، ودمّرت البنية التحتية المتداعية للطاقة في إيران، ستتفاقم أزمة الطاقة الراهنة وسيستحيل سد عجز الطاقة، ما قد يؤدي لإثارة الاضطرابات الاجتماعية وانقلاب الجمهور الإيراني على حكومته.
يسعى نتنياهو منذ وقتٍ طويل لدفع إيران نحو نقطة انهيارها، كما دعا الإيرانيين إلى النزول للشوارع في عدة مناسبات، وربما يمثل اليوم أقرب فرصةٍ سانحة لتحقيق ذلك “مع كل لحظةٍ تمر، يقترب النظام بكم – يا شعب فارس النبيل – من حافة الهاوية” ويعي الغالبية العظمى من الإيرانيين أن نظامهم لا يكترث لأمرهم مطلقاً.