نهاية سياسات الغضب: قوى الشرق الأوسط تعيد التموضع وتفتح أبوابها الموصدة
مآلات - مارس 2021
تحميل الإصدار

تقديم

الشرق الأوسط يتغير، والتغير ليس جديداً على منطقة تعيش حالة انتقال منذ قرن. خلال شهور أربعة فقط، رُفِعَ الحصار عن قطر، وتراجعت الهجمات الإعلامية المتبادلة، وانخرطت تركيا في حوار مع مصر ومع الإمارات، وأطلقت السعودية مبادرة لوقف الحرب في اليمن، وخفتت ضوضاء اتفاقات أبراهام، وتم اختيار حكومة تتفق عليها معظم الأطراف في ليبيا، وانفتحت خطوط المفاوضات الأمريكية الإيرانية نحو استعادة الاتفاق النووي.
تلاحقت التطورات في الشرق الأوسط بعد انتخاب “دونالد ترمب” رئيسا للولايات المتحدة في عام 2016: حصار قطر، انهيار الاتفاق النووي الخاص بإيران، تصاعد الحرب في اليمن، الحديث عن ناتو عربي، اتفاقات أبراهام، تصاعد التدخل الروسي في المنطقة، ازدياد حدة الصراع العسكري في سوريا وليبيا، اندلاع التوتر في شرق المتوسط بالإضافة إلى أزمة اغتيال خاشقجي وتصاعد حدة استهداف قوى الإصلاح والديمقراطية. لكنّ المحاور الإقليمية في المنطقة سابقة على وصول ترمب إلى البيت الأبيض، إلا أن حدة الاستقطاب فيها تصاعد بعد وصوله، ففي تلك الأثناء تعزز المحور الذي أطلق عليه سابقا “محور الاعتدال”، أو المحور المضاد للثورات، وانطلق حينها بقوة دفع جديدة، تقوده الإمارات الراغبة بدور قيادي فائق الأهمية في المنطقة، بينما حافظ الطرف الأهم في هذا المحور “السعودية” على دوره، واستمرت عضوية مصر فيه بأقل من وزنها الإقليمي. وفي المقابل شكل حصار قطر نقطة تكثيف لمحور تركي قطري، تضاف إليه جزئيا إيران؛ المحاصرة اقتصاديا، الساعية لرد الضغوط الأمريكية عبر استهداف السعودية من خلال الحوثيين والمليشيات الشيعية في العراق.
وعبر سنوات ترمب الأربع وقعت مواجهات ومماحكات بين المحورين، وبدا أن الشرق الأوسط سيسير في طريق الاستقطاب إلى ما لا نهاية، إلا أن هذه الصورة بدأت تتغير بسرعة في الشهور الماضية، فقد تبين للجميع أن العالم يتغير، وأن التغيير الذي وقع في البيت الأبيض لن يسمح باستمرار الأمور على ما كانت عليه أيام ترمب، وفي انتظار انجلاء المشهد، يعيد الجميع في المنطقة حساباتهم، ويفتحوا أبوابهم على خيارات جديدة.

دوافع إعادة التموضع

  • السعودية والإمارات ومصر: يعتبر العامل الأساسي وراء سعي الدول الثلاث لمراجعة سياستها الإقليمية هو خسارة حليفها الاستثنائي في البيت الأبيض، “دونالد ترامب”، ومجيء إدارة جديدة تتبنى أولويات مختلفة. دعم “ترامب” بصورة واسعة أجندة هذه البلاد الأمنية، واشترك معهم في العداء لتيارات الإسلام السياسي. كما أنه لم يربط الدعم السياسي للحكومات الثلاث بملف حقوق الإنسان، وهو ما أطلق العنان لأجندتهم الإقليمية خاصة في حرب اليمن ودعم الجنرال “خليفة حفتر” في ليبيا. استهلت الإدارة الجديدة بنشر تقرير الاستخبارات حول مقتل “خاشقجي” فيما مثّل رسالة كاشفة عن حقيقة نظرتها لولي العهد السعودي. وبصورة عامة، تلقت السعودية ومصر انتقادات حقوقية حادة، فضلا عن وقف الإدارة دعمها العسكري للعمليات في اليمن، وتعليق صفقات أسلحة مهمة للسعودية والإمارات، كما تراجعت عن ضغوطها على إثيوبيا لمصلحة مصر في ملف سد النهضة. 
  • عين على إيران: يمثل الملف الإيراني محركا مشتركا لسياسة “السعودية والامارات وإسرائيل” إقليميا. تتبنى إدارة “بايدن” نهجا تفاوضيا يبتعد عن سياسة الضغط الأقصى التي تبنتها الإدارة السابقة. وعلى الرغم من تأكيد الإدارة الجديدة التزامها بأمن إسرائيل وحلفائها في الخليج ضد أي تهديدات خارجية، إلا أن أجندة العمل الإقليمي ضد إيران التي تبنتها إدارة “ترامب” مع هذه الدول لم تعد قائمة. ومن ثم تعيد الرياض وأبوظبي وتل أبيب التموضع بهدف بناء توازن جديد مع إيران التي يتوقع أن تستفيد من نهج إدارة “بايدن” التفاوضي. وهو الأمر الذي دفع السعودية للمصالحة مع قطر، ويدفع الدول الثلاث حاليا لإعادة صياغة علاقتها مع تركيا.
  • تركيا: على الرغم من توجس تركيا من توجهات إدارة “بايدن”، خاصة تجاه ملف صفقة شراء منظومة إس 400 الروسية، الصراع في شرق المتوسط، ودعم المسلحين الأكراد في شمال سوريا؛ إلا أن أنقرة مطمئنة بأن العلاقة مع أمريكا ذات أبعاد استراتيجية أكبر من هذه الخلافات، حيث تحتاج الولايات المتحدة لتركيا في حلف الناتو، وفي توازن العلاقة مع روسيا والصين، وكذلك لتركيا دور في ملفات إقليمية مهمة مثل سوريا وليبيا والصومال وأذربيجان.

المراجعة التي تقوم بها أنقرة لسياستها الخارجية لا ترتبط فقط بتغير الإدارة الأمريكية، إذ تتهيأ تركيا لانتخابات رئاسية وبرلمانية عام 2023، وبدأ الحزب الحاكم الاستعداد لها مبكرا من خلال مراجعة للأوضاع الداخلية، خاصة الاقتصاد، بالإضافة لتغيرات واسعة في قيادة الحزب. وبهدف تخفيف التوترات الجيوسياسية التي تزيد من الضغوط على الاقتصاد، تبنت أنقرة سياسة تهدئة جادة مع الاتحاد الأوروبي، الشريك الاقتصادي الأول لتركيا دون منازع. كما تسعى لتخفيف حدة الصراع مع الأطراف الإقليمية، السعودية ومصر واليونان وإسرائيل، لتنويع خيارات سياساتها الإقليمية خاصة بعد تكاتف هذه الأطراف من أجل التصدي لنفوذ أنقرة الإقليمي وفرض عزله على تحركاتها، خاصة في ملف شرق المتوسط وليبيا. وفي حال عاد العمل بالاتفاق النووي الإيراني، فإن تقدير أنقرة أن ذلك سيطلق يد إيران في المنطقة، وهو ما يتصادم مع الدور الإقليمي لتركيا، الأمر الذي سيدفعها لتنفتح على قوى فاعلة في الإقليم، مثل السعودية ومصر، بالإضافة لباكستان، للحد من أي توسع محتمل لدور إيران حينها.

  • مصر: بالإضافة لمسألة غياب “ترامب”، ترى القاهرة أن حلفاءها يتجهون لتفاهمات منفردة مع تركيا، بعد خطوة السعودية المنفردة أيضا تجاه قطر. ومن ثم تعتقد مصر أن لديها الحق في تنويع خياراتها السياسية بشكل مستقل، خاصة وأن التقاطع مع تركيا بات لا مفر منه في ليبيا وشرق المتوسط. على الرغم من كون مصر هي الجهة المحركة لمشروع منتدى غاز شرق المتوسط، وأنها عملت على عزل تركيا؛ إلا أنها قد تحقق فوائد في حال دخول تركيا على خط التفاوض حول هذا الملف، لا سيما بعدما تبين أن مشروع أنبوب الغاز EastMed لن يكتمل من دون دور تركي فاعل. كما ثمة مصلحة مصرية أخرى، ربما تكون أكثر أولوية، وهي تصور إمكانية استثمار حاجة تركيا لمقاومة مساعي عزلها في شرق المتوسط من أجل انتزاع مكاسب تتعلق بوضع المعارضة المصرية في تركيا، خاصة مؤسساتها الإعلامية.
  • الإمارات: مع غياب “ترامب” بات واضحا للإمارات أن مقاربتها الإقليمية الجامحة لم تعد ممكنة. لا يمكن للإمارات أن تتحمل تكلفة مواجهة بالوكالة مع إيران في اليمن مقارنة بما تواجهه السعودية حاليا؛ كما تغيرت موازين القوى في ليبيا بعد التدخل التركي الحاسم. اعتمدت الإمارات في تمددها الإقليمي على ظروف استثنائية لم تعد قائمة، وبات عليها الآن تبني نهجا أكثر واقعية يتلاءم مع قدراتها المحدودة، وعدم المبالغة في الرهان على السعودية أو مصر اللتان انتهجتا نهجا فرديا في ملفات مشتركة، كقرار السعودية تجاه قطر، وتمسك مصر بسياسة عدم تصعيد ضد إيران. التحالف مع إسرائيل يمثل بديلا للإمارات لتحسين وزنها الإقليمي بعد فقدانها الثقة في كفاية السعودية ومصر؛ كما أنها أيضا تدرس إمكانية التهدئة مع تركيا، ولو بصورة تكتيكية لتجنب مزيد من الاستنزاف. 

مؤشرات إعادة التموضع

أولا: توقيع “اتفاق العُلا” بين قطر ودول الحصار، في 6 يناير/كانون ثان، والذي نتج عنه إنهاء مقاطعة قطر والحصار الجوي المفروض عليها من قبل السعودية وحلفائها. خلال الأسابيع القليلة التي تلت الاتفاق، شهدت العلاقات القطرية السعودية، والقطرية المصرية على نحو خاص تقدما لافتا. وتفيد مصادر “أسباب” أن خطوة المصالحة كانت مبادرة سعودية بالأساس تم إقناع القاهرة وأبوظبي بالاستجابة تحت ضغوط من المملكة. ويبدو أن الرياض قدّرت أن قدوم إدارة “بايدن” يتطلب إعادة الوحدة لمجلس التعاون لتعزيز موقف المملكة في مواجهة إيران، وقطع الطريق على تطور استفادة إيران من الخلاف الخليجي إذا تم رفع العقوبات عنها. كما أن ولي العهد السعودي بحاجة لإعادة بناء صورته أمام الإدارة الجديدة كقائد يمكن الاعتماد عليه في حل مشاكل المنطقة، لا أن يكون هو أحد مسببات عدم الاستقرار الإقليمي. 

ثانيا: مؤشرات التهدئة بين تركيا والسعودية والإمارات. حيث فتحت كل من الرياض وأبوظبي، كل على حدة، قنوات اتصال مع تركيا بهدف التوصل إلى تفاهمات تنهي حالة الفتور والتوتر التي تهيمن على العلاقات خلال السنوات القليلة الماضية. ومع تنامي أدوار تركيا في المنطقة، تراهن المملكة على أن تهدئة التوترات مع تركيا يزيد من خيارات سياساتها الإقليمية، ليس فقط بهدف تجنب أن تضر بمصالح الرياض أي تفاهمات تركية إيرانية مستقبلية في حال تم رفع العقوبات الأمريكية عن إيران، ولكن أيضا من أجل كسب الدعم التركي السياسي إزاء الضغوط الأمريكية، وبالطبع في مواجه النفوذ الإيراني. يقابل ذلك رغبة تركية رسمية معلنة لتحسين العلاقات مع المملكة. لذلك، تجنبت تركيا التعليق على تقرير الاستخبارات الأمريكية حول مقتل “خاشقجي” رغم أنه يدعم رواية تركيا. كما جاء رد الفعل التركي “معاتبا” للسعودية على مشاركتها بمناورات عسكرية في جزيرة كريت مع اليونان أكثر من كونه “مهددا”. 

ثالثا: تفكيك الإمارات لقاعدة عصب في إريتريا. حيث قامت بنقل مئات من القطع العسكرية إلى جزيرة ميون اليمنية وقاعدة سيدي براني غربي مصر والعين الإماراتية. كما قامت بتفكيك أجزاء من البنية التحتية الحديثة في قاعدة عصب. تمثل هذه رسالة واضحة على أن الإمارات تقلص طموحاتها الاستراتيجية المبالغ فيها، حيث أن انتشارهم العسكري الهائل في المنطقة بات يعرضهم لمخاطر أكثر مما يمكن للإمارات تحمله. مثّلت قاعدة عصب نقطة انطلاق للعمليات العسكرية في اليمن، ومن ثم تعتبر هذه رسالة سلام صريحة لإيران. بالتوازي مع هذا، خفضت الإمارات بشكل كبير الدعم العسكري واللوجيستي للقائد العسكري الليبي خليفة حفتر. 

رابعا: قرب التوصل لتفاهمات مصرية تركية. حيث دفعت الحاجة لتجنب الصدام في ليبيا البلدين لفتح قناة تواصل أمنية، تطورت فيما يبدو لاحقا لتمثل خط اتصال يتناول علاقة البلدين المتأزمة منذ الانقلاب العسكري في مصر، يوليو 2013. ويمكن القول إنه منذ سبتمبر/أيلول الماضي أصبحت اللقاءات التركية المصرية منتظمة بهدف إيجاد حل للقضايا الملحة التي تؤرق البلدين. وتظهر مؤشرات عدة، آخرها التهدئة الإعلامية المتبادلة أن ثمة تقدم حقيقي قد يوفر لكلا البلدين هامشا أوسع من بدائل السياسة خصوصا في ملفات مثل شرق المتوسط وليبيا. ويبدو من المرجح أن تشهد الأسابيع القليلة القادمة عودة لمستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين على مستوى السفراء، وإزالة المعوقات التجارية غير المعلنة، وربما بداية تطور أكثر في مستوى التبادل الاقتصادي.

خامسا: تركيا وصفحة جديدة مع الاتحاد الأوروبي. أوقفت تركيا أنشطتها الاستكشافية في المناطق المتنازع عليها مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط. كما كثفت من انخراطها الدبلوماسي مع الاتحاد الأوروبي على مختلف المستويات خلال الشهرين الماضيين، خاصة مع ألمانيا. وتوجت هذه الجهود خلال الأيام القليلة الماضية بتأكيد المستشارة أنغيلا ميركل على أن تركيا “ليست فقط شريكا وحليفا في الناتو، بل هي دولة ذات أهمية استراتيجية”. ثم جاء التطور الأبرز في قمة زعماء دول الاتحاد الأوروبي الخميس 25 مارس أذار، المخصصة لتداعيات كورونا وبحث العلاقات مع تركيا، حيث أعلنوا استعدادهم لتطوير التعاون مع تركيا، مشددين أن من مصلحة الاتحاد التعاون مع أنقرة وبناء علاقات على أسس المصالح المتبادلة.

سادسا: وقف التصعيد التركي الإسرائيلي”. حيث أكد الرئيس التركي علنا في مناسبة نادرة منذ سنوات أن بلاده تتمنى علاقات أفضل مع إسرائيل، مشيرا إلى أن الخلاف الحالي يرتبط فقط بظلمهم للفلسطينيين. لاحقا، كشف رئيس وزراء الاحتلال أن بلاده تجري مباحثات مع تركيا حول ملف الغاز في شرق المتوسط، ومن المتوقع أن تتكثف الاتصالات بين الطرفين لانجاز صفقة تتعلق بالغاز في المتوسط، إذ يبدو أن غاز شرق المتوسط سيكون نقطة ارتكاز مهمة لعلاقات تجمع عددا من الأطراف الراغبة في تحسين إيراداتها في زمن تحيط فيه الأزمات الاقتصادية بالجميع.

الخلاصة

تقوم الأطراف الإقليمية بإعادة رسم علاقاتها الثنائية، وتموضعها في بعض القضايا استجابة لمتغير رئيس هو وجود إدارة أمريكية جديدة تتبنى توجهات متباينة عن توجهات الإدارة السابقة تجاه قضايا رئيسية في المنطقة. كما أن الاعتبارات الداخلية، خاصة في الحالة التركية متمثلة في الاستعداد لانتخابات العام القادم، تلعب دورا في صياغة نهج السياسة الخارجية خلال الأشهر القليلة القادمة. لكنّ إعادة التموضع مازال عملية جارية، ومن ثم قابلة للصدام بحقائق الجغرافيا السياسية والمصالح الاستراتيجية المعقدة للأطراف الإقليمية التي من الصعب تصور أن يتم التخلي عنها أو المساومة عليها. ومن ثم فإن المدى الذي قد تصل إليه هذه التحولات مازال محل اختبار، ولن يحقق بالضرورة مستويات تقدم متساوية بالنسبة لكل دولة من دول الإقليم. 

وبصورة عامة، يمكننا القول بأن الاصطفاف الجيوسياسي في المنطقة لم يتغير من حيث الجوهر، والحلفاء مازالوا ملتزمين تجاه بعضهم البعض في القضايا الاستراتيجية. فقط العداءات تتجه لتكون أقل صخبا، والمتنافسون يتبنون خيارات تكتيكية أكثر براغماتية، بانتظار مزيد من الوضوح في المشهد الإقليمي والدولي.