عودة “دا سيلفا” تنهي عزلة البرازيل وتتوج انتصارات يسار أمريكا اللاتينية
سياقات - نوفمبر 2022
تحميل الإصدار

الحدث

فاز المرشح اليساري والرئيس السابق “لويز إيناسيو لولا دا سيلفا” يوم الأحد 30 أكتوبر/تشرين الأول 2022، في جولة الإعادة الرئاسية في البرازيـل بنسبة 50.9٪ من الأصوات، وبفارق ضئيل جداً عن الرئيس اليميني الحالي “جاير بولسونارو”، وقد شغل سابقًا “دا سيلفا” منصب رئيس البرازيل في الفترة من 2003 إلى 2010، وقضى بعض الوقت في السجن بتهمة الفساد قبل أن يتم إلغاء الإدانة، ومن المقرر أن يؤدي اليمين لفترة رئاسية أخرى في بداية شهر يناير/كانون الثاني 2023.

دا سيلفا الرئيس البرازيلي

تحليل: رئاسة “دا سيلفا” في مواجهة استقطاب محلي وصراع دولي

  • سيواجه “دا سيلفا” ظروفًا اقتصادية وسياسية أكثر صعوبة من تلك التي واجهها في فترة رئاسته الأولى، بالإضافة إلى تحديات الاستقطاب الحاد الذي تشهده البرازيل منذ عدة سنوات؛ الأمر الذي يمكن أن يحد من قدرته على المضي قدما في أجندته السياسية المحلية.
  • في حين حملت برامج “بولسونارو” و”دا سيلفـا” الانتخابية تباينا حادا حول اتجاهات السياسة الخارجية البرازيلية، الأمر الذي يمكن أن يجعل لفوز “دا سيلفـا” تأثيرا عميقا على توقعات دور البرازيـل الإقليمي والدولي في السنوات القادمة، وبخاصة في المناحي التالية:

أولاً: إنهاء عزلة البرازيل واستعادة سمعتها الدولية

  • انتهج “بولسونارو” سياسة خارجية مناهضة للعولمة ومعادية للبيئة، مما ساهم في تقليص نشاط البرازيل الدبلوماسي على المستوى الإقليمي والدولي، وانعكس سلبا على علاقات البرازيـل مع الولايات المتحدة والصين وأوروبا، كما وصلت العلاقات البرازيلية مع أمريكا وأوروبا إلى أسوأ حالاتها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا؛ بسبب مواقف “بولسونارو” الذي لم يكتفِ بزيارة موسكو قبل أيام من الغزو، ولكنه لم يدعم تعليق عضوية موسكو في مجلس حقوق الإنسان، وعارض محاولات الغرب لاستبعاد موسكو من مجموعة العشرين، فضلا عن عدم المشاركة في العقوبات الغربية المفروضة على روسيا وانتقادها.
  • في المقابل؛ يتجه “دا سيلفـا” إلى إعادة البرازيـل لسياستها الخارجية التي تركز على التعددية والتعاون الدولي.

كما تمثل عودته تغييرا جوهريا في أجندة البرازيل البيئية، حيث تعهد ببذل المزيد من الجهد لمكافحة إزالة الغابات في منطقة الأمازون، وهي قضية تمس سمعة البرازيـل الدولية، لذلك؛ من المتوقع أن تسهم سياسة “دا سيلفا” البيئية في تحسين صورة البرازيـل الدولية، وتمهيد الطريق لعلاقات إيجابية مع واشنطن وأوروبا.

  • لكن في الموقف من الحرب على أوكرانيا، من غير المتوقع أن نشهد اختلافا كبيرا من قبل “دا سيلفـا” تجاهها؛ حيث سيتجه على الأرجح إلى التمسك برفض غزو أوكرانيا والاعتداء على سيادتها، مع استمرار التحفظ في عهده تجاه الانضمام للعقوبات الغربية على روسيا. ولا يعكس هذا السلوك في الواقع تضامن “دا سيلفـا” مع روسيا، كما فعل “بولسونارو”، ولكنه يأتي نتيجة القلق تجاه الدعم الغربي الانتقائي للقواعد والأعراف الدولية، وهو قلق ستتقاطع فيه البرازيل مع دول أخرى مهمة مثل تركيا.

إقرأ أيضاً:

لماذا توقف نمو الأرجنتين ولم تصبح دولة غنية؟

كولومبيا تلحق بربيع اليسار في أمريكا اللاتينية وتعيد انتباه واشنطن إلى الكاريبي

الممر بين المحيطين في أمريكا الجنوبية.. هل يحلّ محلّ قناة بنما؟

ميلوني تحكم إيطاليا: صعود اليمين القومي يهدد مستقبل الوحدة الأوروبية

ثانياً: استعادة ثقل البرازيل في أمريكا اللاتينية والتكتلات التجارية الدولية

  • توقعنا سابقا في مآلات بأن فوز “دا سيلفـا” سيعزز التوجه نحو تشكيل تحالف إقليمي واسع في أمريكا اللاتينية؛ حيث سيكون من السهل على “دا سيلفـا” الدعوة إلى إنشاء منصة إقليمية من خلال حقيقة أن معظم دول المنطقة يحكمها حاليًا رؤساء من اليسار، وهو الأمر الذي يمكن أن يجعل من هذا التحالف المحتمل قوة معتبرة في نصف الكرة الغربي، فضلا عن إمكانية تطوره إلى الحد الذي يمتلك فيه قدراً متزايدا من الاستقلالية.
  • بالنظر إلى تاريخ “دا سيلفـا” الذي لعب دورًا رئيسيًا في التكتلات متعددة الأطراف -البريكس على سبيل المثال- فإن من المرجح أن يسعى “دا سيلفـا” إلى استعادة ثقل البرازيل في تلك المؤسسات والتكتلات وكذلك الانضمام إلى منظمات أخرى، وستتركز أولويات “دا سيلفـا” على تعزيز التواجد في مجموعة البريكس (BRICS)* كمنصة حيوية في التجارة الدولية، بينما من المتوقع أن يتخذ مقاربة إيجابية مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، تكتفي بالتعاون ودعم مشاريع المبادرة في دول أمريكـا اللاتينية، دون الانضمام رسميًا إلى المبادرة، وبالرغم أن “بولسونارو” قد بدأ عملية الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE)**، فمن غير الواضح إذا كان “دا سيلفا” حريص على مواصلة عملية الانضمام، لاسيما بعد أن قلل من أهميتها للاقتصاد البرازيـلي أثناء حملته الانتخابية.

ثالثا: عودة “دا سيلفا” تمنح أمريكا والصين فرصاً لتعزيز العلاقات مع البرازيل

  • تسعى الولايات المتحدة لتأمين علاقات قوية مع دول أمريكا اللاتينية لمواجهة الدور الصيني المتنامي في المنطقة، ويمنح فوز “دا سيلفـا” فرصة لواشنطن لتحقيق هذا الهدف؛ حيث لن تسهم سياسة “دا سيلفـا” البيئية فقط في تعزيز التعاون الثنائي مع واشنطن في قضايا التغير المناخي، ولكن من المحتمل أن تنعكس بشكل إيجابي على العلاقات السياسية والاقتصادية الشاملة بين البلدين، خاصة الحفاظ على تدفقات الاستثمار المهمة للبلدين.
  • على الجانب الصيني؛ بالرغم من خطاب “بولسونارو” المناهض للصين خلال إدارة “ترامب”، فقد بدت بكين أكثر رغبة في فوز “بولسونارو” عن “دا سيلفـا”؛ إذ يوفر فوز الأول استمرارا لعزلة البرازيـل الدبلوماسية عن الغرب، والتي دفعت البرازيل خلال السنوات الماضية إلى التمسك بمجموعة البريكس التي تسعى الصين لتوسيع أدوارها في إطار مواجهة الولايات المتحدة وشركائها، كما أن تقليص نفوذ البرازيـل في أمريكـا اللاتينية في عهد “بولسونارو” سمح لتمدد نفوذ الصين في المنطقة.

اقتصاديا، حافظت البرازيل على موقعها كأبرز شريك تجاري لبكين في أمريكـا اللاتينية، حيث نمت الروابط التجارية في عهده إلى 135 مليار دولار عام 2021، من حوالي 100 مليار دولار في بداية رئاسته عام 2019.

  • في المقابل؛ من المرجح أن يسعى “دا سيلفـا” إلى تعزيز العلاقات الثنائية في مجالات أخرى بجانب الاقتصاد، في إطار سياسته الحذرة في الحفاظ على علاقات متوازنة مع الأطراف الدولية، خاصة الصين وروسيا، بحيث تساعد تلك السياسة البرازيـل في إدارة علاقاتها غير المتكافئة مع الولايات المتحدة.
دا سيلفا الرئيس البرازيلي

رابعا: استعادة بعض الصداقة مع المنطقة العربية والشراكة مع تركيا

  • نتيجة لتعقيدات قضايا المنطقة العربية والشرق الأوسط، فإن من المتوقع أن تنتعش صداقة البرازيـل مع بعض الدول العربية مجددا بعد سنوات الفتور السياسي التي نتجت بشكل أساسي عن موقف “بولسونارو” الداعم للاحتلال الإسرائيلي، ومساعيه لنقل سفارة البرازيـل لدى “إسرائيل” إلى القدس المحتلة، وقد تتخذ مساعي دولة مثل مصر لتطوير التعاون العسكري مع البرازيـل صورة أكثر جدية في المرحلة القادمة، في حين أن سياسة “دا سيلفـا” تجاه إيران ومسألة العقوبات الدولية قد تعيق تطور العلاقات مع دول مهمة مثل السعودية.
  • كما وستوفر ميول”دا سيلفـا” لتبني نهجا في القضايا الدولية متوازنا وأكثر استقلالا مجالا لتعاون أكثر مع دول المنطقة، خاصة تركيا التي سبق أن انتقلت علاقة البرازيـل معها إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية” خلال حكم “دا سيلفـا” عام 2010.

خلاصة

  • من المرجح أن يتمسك “دا سيلفـا” بسياسة خارجية تتجنب المشاركة في تحالفات جيوسياسية يمكن أن تحد من استقلاليتها على الجبهة الدولية، وفي الوقت نفسه؛ سيسعى لعلاقات متوازنة مع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، وسيوفر التعاون المحتمل مع الولايات المتحدة حول التجارة والتغير المناخي وحماية الديمقراطية فرصة لواشنطن لمواصلة الدفاع عن نفوذها الاقتصادي والسياسي في أمريكا اللاتينية.
  • من المتوقع أن توفر عودة “دا سيلفـا” صديقا دوليا مهما للرئيس التركي “أردوغان” في حال فوزه بولاية رئاسية جديدة؛ حيث يسعى كلاهما لتبني سياسة دولية متوازنة بين القوى الكبرى، كما أن مواقف “دا سيلفـا” الداعمة للقضية الفلسطينية ستوفر فرصة لتجاوز فتور علاقات البرازيـل مع الدول العربية.

* مجموعة تضم إلى جانب البرازيـل كلا من الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا.

** كتلة من 38 عضوًا بينها واشنطن و​​بعض أكبر الاقتصادات في العالم.