عملية “طوفان الأقصى” تفرض معادلة جديدة في الصراع العربي- الإسرائيلي
سياقات - أكتوبر 2023
تحميل الإصدار

الحدث

نفذت حركة حماس، وفصائل مقاومة فلسطينية، في السابع من أكتوبر 2023، عملية “طوفان الأقصى”، والتي شملت الاقتحام البري والبحري والجوي لحوالي 20 مستوطنة إسرائيلية في “غلاف غزة”، تزامنت مع إطلاق أكثر من خمسة آلاف صاروخ نحو الأراضي المحتلة، في أكبر هجوم تتعرض له دولة الاحتلال في تاريخها منذ التأسيس، والذي خلّف، حتى يوم الخميس 12 أكتوبر، أكثر من 1200 قتيل بينهم نحو 200 عسكريا بحسب تصريحات جيش الاحتلال، وعدد غير محدد من الأسرى أشارت تقارير عبرية أنهم في حدود 200، بينهم قادة عسكريين كبار. في مواجهة ذلك؛ أعلنت حكومة الاحتلال حالة الحرب، واستدعت قوات الاحتياط للمرة الأولى منذ حرب السادس من أكتوبر عام 1973، وبدأت في عملية عسكرية ضد قطاع غزة، مازالت تقتصر على القصف الجوي المكثف، ونتج عنها حتى الآن أكثر من 1350 شهيدا، غالبيتهم الساحقة من السكان المدنيين.

عملية طوفان الأقصى تفرض معادلة جديدة في الصراع العربي- الإسرائيلي

التحليل: “طوفان الأقصى” تؤسس لنموذج أمني واستراتيجي جديد

جاءت هذه التطورات في ظل قيام حكومة “بنيامين نتنياهو” المتطرفة بتصعيد إجراءات الأمر الواقع والتي استهدفت تجاوز الجانب الفلسطيني والمضي قدما في إجراءات نهائية مثل الضم العملي للضفة الغربية والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وفرض السيادة الكاملة على القدس كعاصمة موحدة. كما تشير تقديرات إلى أن الهجوم الفلسطيني المباغت، استبق مخططا إسرائيليا لتوجيه ضربة قاسية لحركة حماس بعد انتهاء الأعياد اليهودية، حيث عقد نتنياهو اجتماعاً أمنياً قبيل عملية “طوفان الأقصى” بـ 7 أيام، لهذا الغرض.

 

  • تمثل عملية “طوفان الأقصى” حدثاً غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي؛ من حيث قدرة المقاومة الفلسطينية على اختراق “الحدود الآمنة” على امتداد غلاف قطاع غزة. كما عكست تطوراً نوعياً تجلى في عدم قدرة المؤسسة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية على التنبؤ به والاستجابة له. وإذا كان قادة الاحتلال قد أجلوا خلافاتهم مؤقتا لضرورة الوحدة أثناء إدارة الحرب، فليس ثمة شك أن العملية كتبت نهاية مستقبل الكثيرين من القادة السياسيين والأمنيين، بمن فيهم نتنياهو نفسه.

  • إقليميا، سيكون للحدث ارتدادات عميقة، حيث تعد عملية “طوفان الأقصى” تمرداً مباشراً على الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية حيال المنطقة، التي كانت تعطي الأولوية في الآونة الأخيرة لتطوير وتعزيز اتفاقات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ودمج الاحتلال في البنية الإقليمية عبر مشاريع اقتصادية وتنموية كبيرة، دون أن يرتبط هذا بالقضية الفلسطينية نفسها. قد لا تتخلى دول إقليمية مثل السعودية عن مشروع التطبيع في المدى الطويل، لكنّ هذه التطورات من المرجح أن تجمد هذه الجهود في الأجل القصير أو المتوسط.

  • تدرك الإدارة الأمريكية خطورة المشهد الراهن، وتعمل منذ اللحظة الأولى على زيادة حجم تدخلها، لضمان التحكم بمسار الأحداث، متبنيةً استراتيجية “منع التصعيد” والتي تقوم على ردع إيران وحلفائها من التدخل، خشية تحول الحرب الحالية لصراع إقليمي تتورط فيه الولايات المتحدة على حساب أولوياتها المتمثلة في الحرب الأوكرانية والتنافس مع الصين. ومن المؤكد أن دعم الإدارة الأمريكية لإسرائيل سيكون كاملا، في ظل أن المسألة ستكون مادة انتخابية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

  • تستهدف الخطوات الأمريكية أيضا تهيئة بيئة إقليمية ودولية مواتية للعمليات العسكرية الإسرائيلية، والتي من المرجح أن تشمل عملية برية واسعة داخل قطاع غزة، لاسترداد معادلة الردع ضد المقاومة الفلسطينية. وبالنظر لانهيار القوات الإسرائيلية في الجنوب والحاجة لحشد قوات عسكرية من باقي المناطق، فإن القيام بمثل هذا الهجوم الواسع على القطاع يتطلب العمل على ضمان عدم فتح ساحات مواجهة متزامنة أخرى، خاصة في الضفة الغربية وأراضي 48، والجبهة الشمالية مع حزب الله. لذلك؛ فإن الضغوط الأمريكية على إيران وحزب الله للبقاء خارج المعادلة يمثل ضرورة كي تتفرغ “إسرائيل” للانتقام من قطاع غزة.

  • مازالت بعض التقديرات إزاء معالجة احتمالات العملية العسكرية البرية الواسعة في قطاع غزة أسيرة للمحاذير السابقة التي منعت جيش الاحتلال طوال السنوات الماضية من اتخاذ مثل هذه الخطوة، والتي أبرزها حجم الخسائر المتوقعة للاحتلال، وتجنب الجيش التورط في معركة طويلة الأمد داخل القطاع على حساب الجهوزية القتالية في الجبهة الشمالية والضفة الغربية. 

  • هذه التقديرات لا تستوعب بالقدر الكافي طبيعة النموذج الجديد (Paradigm)، أمنيا واستراتيجيا، الذي تأسس في السابع من أكتوبر، والذي لا يخضع للحسابات السابقة. كانت حماس تهديدا أمنيا يمكن احتوائه وإدارة الصراع معه بمزيج من الضغوط والإغراءات المالية والعسكرية المحسوبة. في حين كان التهديد الوجودي هو النووي الإيراني قبل أي شيء آخر. الآن، أظهرت حماس أن الرهان على احتوائها خيار فاشل بقدر ما هو خطير، وانتقلت من التعامل معها كتهديد أمني إلى تهديد وجودي لا يمكن لدولة الاحتلال التعايش معه دون فرض معادلات جديدة. في النموذج السابق كان يُنظر لحماس كطرف غايته الاستمرار في حكم قطاع غزة، أما الآن فقد باتت طرفا متمسكا بالرغبة، وأظهر القدرة، للمضي قدما في “مشروع التحرير”، وهو ما يعني تهديدا وجوديا لم يعد قائما، دون مبالغة، منذ انتصار الاحتلال في حرب 1948.

  • السؤال الأكثر أهمية هو طبيعة الأهداف السياسية والأمنية التي ستسعى هذه العملية لتحقيقها. ولا يمكن الزعم حاليا بأن لدى قادة الاحتلال تصورا نهائيا إزاء ما يجب عمله وما يمكن إنجازه لاستعادة الردع والقضاء على التهديد الوجودي. أي إن هذا “النموذج الجديد” مازال قيد التشكل، ولن تكون صورته النهائية وطبيعة معادلاته المقبلة متوقفة فقط على قرار الاحتلال، ولكن أيضا على قدرة حماس و- مجمل الشعب الفلسطيني – على الصمود، وإثبات أنها غير قابلة للاقتلاع، فضلا عن سلوك بعض الأطراف الإقليمية مثل مصر وإيران. حتى الآن لا يمكن لأحد التنبؤ بكيفية نهاية هذه المواجهة، بما في ذلك حماس نفسها التي نجحت بصورة مذهلة في مباغتة أجهزة الاستخبارات الأكثر تطورا في العالم.

  • تشير عملية “طوفان الأقصى” إلى انهيار المقاربة الاستراتيجية التي عملت عليها دولة الاحتلال حيال القضية الفلسطينية، وهي ترسيخ الأمر الواقع و”إدارة الصراع” مع الفلسطينيين دون الدفع باتجاه حلول لصالح الفلسطينيين، باعتبار أن التطبيع الإقليمي ينهي عمليا هذا الصراع. سبق أن قدّرنا في “أسباب” أن التطبيع الإقليمي المنفصل عن حل القضية الفلسطينية يجعل دولة الاحتلال أكثر اندماجا في المنظومة الإقليمية، لكنّها ستبقى أقل أمنا؛ لأن التهديد الحقيقي لم يكن مصدره الدول الإقليمية ولكنه نابع من داخل المشروع الإسرائيلي القائم على الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري ضد ملايين الفلسطينيين. عملية “طوفان الأقصى” هي برهان عملي على أن هذا الاستنتاج مازال صحيحا وفعالا.