العراق .. عودة الاحتجاجات في ظل أزمات متفاقمة
سياقات - يناير 2021
تحميل الإصدار

تقديم

في ديسمبر/كانون الأول 2020، اندلعت احتجاجاتٌ في عدة مدن بعد أن أعلن البنك المركزي العراقي أنه سيخفّض قيمة العملة العراقية مقابل الدولار الأمريكي بأكثر من 20%. ويزعم كثير من العراقيين أن القرار سيقلِّل من قيمة رواتبهم ويزيد كلفة السلع الأساسية في ظلِّ بيئةٍ اقتصادية تعجُّ بالمصاعب.
في قلب هذه الأزمة الأخيرة، هناك مجموعة من القضايا المُعقَّدة التي تدور حول الأزمات السياسية المختلفة التي ابتُلِيَت بها الحكومة العراقية منذ عام 2018، ويمكن إجمالها في: الانقسام السياسي المتواصل، والاضطرابات المدنية الواسعة النطاق، والتوتُّر الأمريكي الإيراني المتفاقم، والمخاطر الأمنية المستمرة التي يمثّلها تنظيم الدولة الإسلامية.. كلُّ ذلك يمثِّل عاصفةً هائلة. علاوة على ذلك، هناك أيضاً جائحة كوفيد19، والانخفاض العالمي في أسعار النفط؛ ذلك الانخفاض الذي مثّل أساسا للأزمة الاقتصادية، ممَّا ضخّم مشكلات العراق.

أزمات متراكمة

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، شهدت البلاد موجة من المظاهرات الواسعة النطاق. وبينما عُلِّقت مسيرات الاحتجاج في البداية مع تفشي جائحة كوفيد19، ظلَّت مجموعات من المتظاهرين متجذِّرةً بشكلٍ دائم في ساحات المدن الكبرى في جنوب العراق، مثل بغداد والناصرية والبصرة. ويندِّد المتظاهرون المناهضون للحكومة بالفساد المستشري، ونقص الخدمات، والافتقار إلى فرص العمل، إضافة إلى التدخل الإيراني في السياسة العراقية. وبشكل عام، يشعر المتظاهرون أنهم لا يستفيدون من الثروة النفطية لأمتهم، ويطالبون بإصلاح النظام السياسي.

ومع تفاقم الغضب الشعبي إزاء الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد وتفاقم أزمة الصحة العامة، عادت الاحتجاجات إلى الظهور. وإلى جانب الدعوة إلى التراجع عن خفض قيمة العملة، كانت الاحتجاجات مدفوعةً بتواصل الاغتيالات التي تستهدف النشطاء والجهات الفاعلة في المجتمع المدني من جانب المليشيات. واندلعت الاحتجاجات ضد تأخّر الرواتب في أكثر من 12 بلدة في السليمانية، وهي محافظة حدودية شرقية في إقليم كردستان العراق. وفي مناطق أخرى؛ تظاهر المئات في مدينة الكوت شرقيّ البلاد قرب الحدود مع إيران، حيث قال تُجّار إن الواردات ستتضرّر، لأنهم يستخدمون الدولار لشراء سلع من الخارج.

الجائحة تتفاقم والاقتصاد يعاني

أدَّت جائحة كوفيد19 إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المتردي بالفعل. واعتباراً من 6 يناير/كانون الثاني 2020، سجَّل العراق أكثر من 598 ألف حالة إصابة بالفيروس، و12844 حالة وفاة على الأقل. وفي انعكاسٍ للاستجابة العالمية، حاولت الحكومة العراقية اتّباع سياسات مختلفة لإيقاف تفشي الفيروس، إذ أُغلقت حدود البلاد رسمياً لعدة أشهر، وعلّقت رحلات السفر الداخلي (لا سيما بين إقليم كردستان وبقية العراق) حتى سبتمبر/أيلول 2020.

وبالتوازي مع ذلك، أدى الانخفاض الحاد في أسعار النفط العالمية إلى خفض الموارد المالية للدولة، إذ إن نحو 90% من إيرادات العراق المالية تأتي من مبيعات النفط، والتي يُدفع الكثير منها في صورة رواتب ومزايا لموظَّفي الدولة والمتقاعدين. وأدَّت تدابير التخفيف من آثار الجائحة إلى تعميق الانكماش الاقتصادي الذي بدأ بالفعل في المناطق الحضرية التي أُصيبت بالشلل بسبب الاحتجاجات في أواخر 2019 وأوائل 2020. ويتوقّع صندوق النقد الدولي أن يكون انكماش الاقتصاد العراقي وصل إلى نسبة 12% عام 2020، وأن يصل عجز الموازنة إلى 22% من الناتج المحلي الإجمالي.

أفادت وزارة التخطيط العراقية بأن 4.5 ملايين شخص إضافي (أو 11% من السكَّان) سقطوا في براثن الفقر بسبب الجائحة، ومعظمهم من الأطفال. ووجدت أيضاً أن واحداً من كل ثلاثة عراقيين ربما وقع تحت خط الفقر بحلول نهاية 2020.

إطار أمني وحوكمي مُعقَّد

أدَّى عدم الاستقرار السياسي والجمود إلى منع المسؤولين الحكوميين من تمرير تدابير الإغاثة الاقتصادية وتدابير الصحة العامة التي تشتد الحاجة إليها. وكانت الحكومات العراقية الضعيفة والمتواطئة تعني أن كلَّ حزب يدير وزارة واحدة أو أكثر. وهم يديرون هذه البيروقراطيات كشبكات محسوبية ضخمة وأجهزة فساد تستخرج عائدات النفط من الخزانة وتمرّرها إلى جمهورها في شكل وظائف وعقود ومزايا أخرى. وأدَّى انتشار الكسب غير المشروع إلى خنق ما كان يملكه القطاع الخاص من قبل.

ويمثِّل تموضع قوات الحشد الشعبي (مجموعة من المليشيات، بعضها متحالفٌ مع إيران، وتتمتَّع الآن بسلطةٍ سياسية وافرة) داخل هيكل الدولة العراقية إشكالية معقّدة بشكلٍ خاص. ورغم الإنجازات العسكرية التي حققتها الحملة المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية، فإنها أيضا أدت بشكل غير مقصود إلى تسليح وتدريب قوات الأمن التي عملت خارج المؤسَّسات الرسمية في كلٍّ من العراق وإقليم كردستان. وتتحدَّى السيطرة التي تمارسها الجماعات المُسلَّحة المختلفة على أجزاءٍ من البلاد سلطة الحكومة وسيادتها.

عودة تنظيم الدولة

سمح الوضع السائد داخل العراق لتنظيم الدولة -الذي هُزِمَ عسكرياً في عام 2017- بالظهور من جديد. فمنذ مارس/آذار2020، اكتسب التنظيم قوّته عبر استغلال الفراغ الأمني في المحافظات الشمالية والوضع الراهن في العراق لإبراز نفسه من جديد، باستخدام أساليب الحرب غير المتكافئة التي لطالما اعتمدها تنظيم القاعدة في العراق. 

وعلى الرغم من أنه ليس قوة يمكنها إبقاء الأراضي تحت سيطرته، يجري تقييمه على نطاق واسع بأنه يتمتَّع بقوة مماثلة لما كان عليه في 2012، قبل نهوضه في العام 2014. فلديهم هيكل قيادة جديد، مع شبكات لوجستية فعَّالة، مما يسمح لهم بتطبيق تكتيكات تشبه حرب العصابات بشكل فعال ضد عناصر الأمن العراقية في المحافظات الشمالية، وشن حملة استنزاف منظَّمة. وإذا تُرِك تنظيم الدولة دون رادعٍ، فمن المُرجَّح أن يستمر في النمو، مِمَّا يفاقم الوضع المُعقَّد بالفعل في البلاد.

الآثار الفورية لاستمرار الاحتجاجات

من المُرجَّح أن تستمر المظاهرات وحظر التجوُّل وإغلاق الطرق في بغداد والبصرة وكربلاءوقد تقع الاحتجاجات في الساحات العامة البارزة ومراكز المدن وقرب المباني الحكومية، بما في ذلك المقرات الحكومية الإقليميةوفي بغداد، من المُحتَمَل أن يستمر الاحتشاد قرب ساحة التحرير والمنطقة الخضراء الدولية، وقد تتزايد الاحتجاجات من حيث الحجم والكثافة رداً على استمرار السلطات في استخدام القوة إزاء المتظاهرين، ومع استمرار تخفيف قيود الإغلاق.

تستمر الاحتجاجات العنيفة أو تندلع في عدة مدن، بما في ذلك المثنى والنجف وبغداد وبعقوبة والبصرة والديوانية وديالى وكربلاء والناصرية والسماوة. ومن المُستبعَد اندلاع اضطراباتٍ مدنية في إقليم كردستان الشمالي. وقد ردَّت قوات الأمن على أعمال العنف الاحتجاجية بالرصاص المطاطي والغاز المُدمِع والذخيرة الحية. وفرضت السلطات بانتظام حظر التجوُّل في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك بغداد والبصرة وذي قار وكربلاء، وكذلك في المحافظات الوسطى والجنوبية من العراق. ومن المُرجَّح أن تُفرَض المزيد من القيود على الحركة مع استمرار الاحتجاجات.

وأدَّت الاحتجاجات والاشتباكات المُصاحِبة لها بين قوات الأمن والمتظاهرين بشكلٍ منتظم إلى إغلاق ميناءي أم قصر وخور الزبير في البصرة. ومن المُرجَّح أن تتوقف العمليات في الميناءين إذا استمرَّت الاحتجاجات. وإذا امتدَّت الاضطرابات في الموانئ، فقد يحدث نقصٌ في السلع الأساسية -مثل السلع الغذائية- في جميع أنحاء البلاد. ومن المُحتَمَل أن تستمر حالات التأخير في التسليم بمجرد استئناف الموانئ عملياتها العادية، إذ ستتعامل أولاً مع تراكم البضائع.

توقعات صعبة للأشهر الـ12 المقبلة

من المُتوقَّع أن تستمر المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية العميقة في العراق خلال الأشهر الـ12 المقبلة. ويواجه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مهمةً شاقة لتهدئة الاستياء الشعبي الشديد تجاه النخبة الحاكمة في العراق، مع الحفاظ على دعم الفصائل السياسية المتصارعة في البرلمان.

ومن المُتوقَّع أيضاً أن تنفِّذ حكومة الكاظمي إصلاحاتٍ سياسية وانتخابية معتدلة، مُتجنّبة إجراء إصلاح منهجي أشمل من شأنه أن يعرِّض منصب الكاظمي للخطر أكثر. ويفتقر الكاظمي إلى رأس المال السياسي لكبح نفوذ الحشد الشعبي، وسيظل هذا يمثِّل نقطة اشتعال للاستقرار السياسي والعلاقات الدولية طوال الفترة المقبلة.

يكتسب الحديث عن ذروة الطلب على النفط وفائض العرض المُحتَمَل زخماً، مِمَّا يثير الشكوك إزاء انتعاش أسعار النفط في الأشهر الـ6 إلى الـ12 المقبلة. وهذا يضع العراق أمام فجوة أكبر بين نفقاته الضرورية وعائدات النفط المُتوقَّعة، مِمَّا يرفع عجز الميزانية إلى مستوياتٍ قياسية.

وبالتالي فإنه من المُتوقَّع اندلاع احتجاجات عامة واسعة النطاق في 2021، مع استمرار ارتفاع معدَّلات البطالة والفقر واستمرار الانقسامات السياسية في عرقلة تغيير السياساتومن المُرجَّح أيضاً أن تتكرَّر الاحتجاجات الكبيرة في إقليم كردستان العراق ضد حكومة إقليم كردستان بصورةٍ مُتقطِّعة. ويزيد من حِدَّة هذه المخاطر احتمال عدم دفع أجور القطاع العام، نتيجة الانخفاض الكبير في الإيرادات الحكومية بسبب انخفاض أسعار النفط.